د. محمد الحوراني
يُمكِنُنا القولُ إنّ معركةَ “طُوفان الأقصى”، وما تلاها من حربٍ همجيّةٍ صهيونيّةٍ، قد أدّتْ إلى خلخلةِ المنظومةِ الفكريّة والقناعاتِ المُزيَّفةِ التي اشتغَلَتِ الآلةُ الإعلاميّةُ الغربيّةُ على تَكْريسِها مُدّةً طويلة، كما أنّها أدّتْ إلى اضطراباتٍ وشُروخٍ عميقةٍ في بنيةِ المُجتمَع الصهيونيّ ومُؤسَّساتِهِ العسكريّةِ والأمنيّة القائمةِ على عقيدةِ التفوُّقِ والسيطرةِ المُطلَقةِ على الشَّعبِ الفلسطينيِّ وقُواهُ المُقاوِمَة، بل إنّها أزالتْ ورقةَ التُّوتِ التي طالما حاولَ المُحتلُّ الصهيونيُّ سَتْرَ عورتِهِ بها، وهو ما دَفَعَ “شاس فريمان” السَّفيرَ الأميركيَّ السابقَ في المملكةِ العربيّةِ السَّعُوديّة، قبلَ أيام، إلى التحذير من المطامعِ التوسُّعيّةِ للكيان الصهيونيّ، ووافقَهُ على ذلكَ الرئيسُ التُّركيُّ “أردوغان” الذي دعمَ بقُوّةٍ “ثوراتِ الخراب” الصهيونيّةَ في بعضِ الدُّوَلِ العربيّة، ذلكَ أنّ هذا الكيانَ ينطلقُ في مُمارَساتِه وعُدوانِه من الأيديولوجيا الدِّينيّةِ للمُتشدِّدينَ اليهود، وهيَ العقيدةُ التي تُوجِبُ على الكيانِ التّوسُّعَ خارجَ فلسطينَ للهيمنةِ على دُوَلٍ أُخرى في الشّرقِ الأوسط، انطلاقاً من الإستراتيجيّةِ الصهيونيّةِ القائمةِ على الرغبةِ في الهيمنةِ على المنطقةِ كلِّها، وهو ما تُؤكِّدُهُ الشّاراتُ التي يُزيِّنُ بها بعضُ جنود الاحتلال ملابسَهُمُ العسكريّةَ، وتُظْهِرُ “إسرائيلَ الكُبرى”، وفيها أجزاءٌ من مِصْرَ وشمالِ السَّعُوديّةِ والأُردُنّ كُلّها وسورية ولبنان، حتّى الفُرات في العراق، تحتَ ذريعةِ أنّها الأرضُ التي وعدَ اللهُ بها اليهودَ، ولهذا ليسَ غريباً أن يطرحَ البروفيسور “بول هاوبت” من جامعة “جون هوبكنز” في الولاياتِ المُتّحدةِ الأميركيّة عامَ ١٨٩٦ فكرةً ترمي إلى توجيهِ المُهاجرينَ اليهودِ القادِمينَ من شرقِ أورُوبّا إلى بلادِ ما بينَ النَّهرَين وسورية، وأيّدَهُ حينَها عددٌ كبيرٌ من الشخصيّات اليهوديّة البارزة، ومنهم: “سيروس أدلر”، و”أوسكار شتراوس”، ولهذا لم يكُنْ غريباً أن يُعيدَ مركزُ دراساتِ العولمة الأميركيّ “غلوبال ريسيرش” وغيرُهُ من مراكزِ الأبحاث والدِّراسات، قبلَ مُدَّةٍ، نَشْرَ وثيقةِ الصحفيّ الإستراتيجيّ الإسرائيليّ “أوديد، أو عوديد يانون” المَوسُومَةِ بـ”الخطّة الصهيونيّة للشَّرقِ الأوسط في الثمانينيّات”، وهي الوثيقةُ القائمةُ على رُؤيَةِ مُؤسِّسِ الصهيونيّة “ثيودور هرتزل” مطلعَ القرنِ الماضي، ولا تزالُ هذه الوثيقةُ تُشكِّلُ حجرَ الزاويةِ في سياساتِ القُوى السياسيّةِ والعسكريّةِ والأمنيّة الصهيونيّة بخطّتِها المُحْكَمةِ والمُمَنْهَجَةِ القائمةِ على إضعافِ الدُّوَلِ العربيّةِ وتقسيمِها لاحقاً، بوَصْفِها جُزءاً من المشروعِ التوسُّعيّ الصهيونيّ، وعلى الاستيطانِ في الضّفّةِ الغربيّة وطَرْدِ الفلسطينيّينَ من فلسطينَ وضَمِّ الضّفّةِ الغربيّةِ وقِطاعِ غزّةَ إلى الكيانِ الصهيونيّ، ويُؤكّدُ “ميشيل شو سو دوفيسكي” أنّ الخطّةَ تقضي بضَمِّ أجزاءٍ من لُبنانَ وسورية والأُرْدُنِّ والعراقِ ومِصرَ والسَّعُوديّةِ إلى الكيانِ الصهيونيّ، على أن يُرافِقَ هذا إنشاءُ كياناتٍ أو دُوَلٍ وكيلةٍ معَ ضمانِ تفوُّقِها في المنطقة.
وإذا كانَ بعضُهمْ يعتقدُ بأنّ قادةَ الاحتلال حَدَّثُوا عقيدتَهُمْ لمصلحةِ الاكتفاءِ بالأراضي المُحتلّةِ الواقعةِ تحتَ سيطرتِهمْ، فإنَّ الواقعَ يُثْبِتُ عَكْسَ هذا، ويُؤكِّدُ أنَّ العقيدةَ التي لا تزالُ تتحكّمُ في نَهْجِ القادَةِ الصهاينةِ عقيدةٌ قائمةٌ على الإبادةِ والتوسُّعِ في المقام الأوّل، وأنّ المُفاوَضاتِ التي تجري بينَ أصحابِ الحقّ والأرض من جهةٍ، وبينَ الصّهاينةِ وأرْبابِهمْ من جهةٍ أُخرى، محكومةٌ بمَنطِقِ “السُّوق” وَفْقَ رُؤيةِ مُحمَّد حسنين هيكل في “خريف الغضب”، إذْ تكونُ المُساوَماتُ صاخبةً، والأصواتُ عالية، وينطلقُ القسمُ المُغلّظُ كُلَّ لحظةٍ، ويَحْلِفُ أنَّ هذا آخرُ سِعْرٍ، وأنَّ النُّزولَ بَعْدَهُ ظُلمٌ كبير، ومعَ ذلكَ تظلُّ المُساوَمةُ على أشُدِّها، وتبقى الرَّغبةُ الصهيونيّةُ المُزيَّفةُ القائمةُ على ادِّعاءِ استمرارِ التّفاوُضِ قائمةً، ويستمرُّ المشروعُ الصهيونيُّ في تحويلِ فلسطينَ إلى مكانٍ قائمٍ على النَّقاءِ العِرْقيِّ بإبادةِ الشَّعبِ الفلسطينيِّ أو تهجيره، وهو مشروعٌ اشْتُغِلَ عليهِ منذُ عام ١٨٨٢، تحتَ ذريعةِ أنّ الطِّفلَ الفلسطينيَّ والأمَّ والشّيخَ وأفرادَ الشَّعبِ الفلسطينيِّ جميعاً هدفٌ عسكريٌّ، وخطرٌ على الأمْنِ والسَّلام، وقُنبُلَةٌ ديمغرافيّةٌ ينبغي التَّخلُّصُ منها بأيِّ طريقةٍ كانت، وهو ما يشتغلُ عليهِ الاحتلالُ الصهيونيُّ منذُ مُدّةٍ طويلة، ولكنَّ هذا النَّهْجَ الهَمَجِيَّ ظهرَ بقذارتِهِ كاملةً بعدَ السّابعِ من تشرين الأوّل عام ٢٠٢٣، ومعَ هذا أثبتَ الشّعبُ الفلسطينيُّ تَجذُّرَهُ في أرضِه بدفاعِهِ الأُسطُوريِّ عنها، واستطاعَ إفشالَ المُخطَّطِ الصهيونيِّ الرامي إلى اقْتِلاعِه من أرضِهِ وطَرْدِه منها، تحقيقاً للمشروعِ الصهيونيّ الشّامل.
وإذا كانَ بعضُهُمْ يرى في الدَّعْمِ الغرْبيِّ للمشروعِ الصهيونيِّ سبباً لنجاحِ هذا المشروع، فإنَّ هذا الدَّعْمَ كانَ حاضراً بقُوّةٍ لنظامِ التَّمييزِ العُنْصُريِّ في جنوب إفريقية، لكنَّ الشَّعْبَ المُتَجذِّرَ في أرضِهِ هُناكَ انتصَرَ، وأسقطَ النِّظامَ العُنصُريَّ، وأقامَ دولتَهُ المُستقِلّةَ على أرضِه.
سيرياهوم نيوز 2_راي اليوم