مازن النجار
تتواتر في دوائر السياسة الأميركية والغربية مقولة: «لو لم تكن إسرائيل موجودة لتحتّم إيجادها»، على اعتبار أن عدم وجودها كان سيتطلب نشر عشرات السفن الحربية وحاملات الطائرات والقواعد العسكرية في المنطقة العربية. وقد تشدّق بذلك كبار قادة الكيان الصهيوني، من مثل بنيامين نتنياهو، الذي أكد بينما كان يتفقد حاملة طائرات أميركية راسية بجوار الساحل الفلسطيني المحتل، أن هناك حاملة طائرات أخرى هي إسرائيل. أما أرئيل شارون فكان قد رفض أن تعادل إسرائيل حاملة طائرات واحدة، بل أكد أنها تعادل عشراً من حاملات الطائرات. بلغ الكيان الصهيوني قمة الغطرسة بنهاية عدوان حزيران 1967، ليبدأ الهبوط أو الانحطاط الاستراتيجي بعد أيام من «النكسة» في معركة رأس العش، ثم حرب الاستنزاف (1967 – 1970) التي قادتها مصر وكبدت الكيان الصهيوني خسائر موجعة، ولم تتوقف إلا لأجل بناء حائط صواريخ الدفاع الجوي المصري. ثم جاءت حرب 6 تشرين الأول 1973 (10 رمضان 1393هـ) وكانت ضربة قاسية زلزلت الكيان، وأهالت التراب على خط بارليف وتحصيناته واستراتيجية الحدود الآمنة، فيما مُنيت قوات العدو بهزيمة قاسية وإهانة مذلّة. في أيام حرب أكتوبر، نشرت الصحافة أن ضابطاً مصرياً أسر ضابطاً إسرائيلياً وسأله: «ماذا حدث لكم… لماذا تغيّرتم؟»، فأجابه الإسرائيلي: «بل أنتم الذين تغيّرتم يا سيّدي».
وهكذا، ثبت أن الانحطاط الاستراتيجي للكيان الصهيوني مرهونٌ باستمرار المواجهة معه على كل الجبهات، وإنهاكه بشكل دائم، وخاصة بالحروب «غير المتناظرة» بين المقاومة الشعبية والاحتلال وفق النمطين الفلسطيني واللبناني. يذكر توماس فريدمان أن سفير إيطاليا في بيروت قال له إن قوة الولايات المتحدة الضخمة المدججة، تشبه قوة فيل لا نفع منه في القتال إلا ضدّ فيل مثله! لذا، سيؤدي استمرار المقاومة الشعبية وتكتيكات حرب الشعب إلى إنهاك معنوي ومادي لجيوش ضخمة عدةً وعديداً، لكنها غير مؤهلة بنيوياً وتدريبياً ومعنوياً للتعامل مع حروب ومقاومة كهذه. في حرب تموز 2006 على لبنان، تعرّض الكيان الصهيوني لحلقة جديدة ومهمة من الانحطاط الاستراتيجي الذي هدد موقعه وأهميته ودوره في خدمة الإمبريالية الغربية، كما تعرضت قدرته على الردع الاستراتيجي التقليدي للتراجع بشكل لا يخفى، في مواجهة قوة لا تتوفر لها سمات الدولة وإمكاناتها.
الدمار الذي لحق بطوابير المدرعات الإسرائيلية في حرب تموز (لبنان)، والآن في «طوفان الأقصى» (قطاع غزة)، باستخدام صواريخ موجّهة أو قذائف محلية الصنع مضادّة للدروع، يفاقم تآكل الردع والانحطاط الاستراتيجي الإسرائيلي. يقول المؤرخون العسكريون إن اختراع وتطوير المدافع ومتفجراتها من البارود النقي، قد ألغى القيمة الاستراتيجية للقلاع الحصينة ودورها في خطط الدفاع وأحالها إلى أرشيف التاريخ أو المتاحف العسكرية، لتصبح الدبابات الفولاذية في الحروب الحديثة قلاعاً متحركة بديلة. فهل تحيل القذائف الترادفية المحلية الصنع والمنخفضة التكلفة هذه القلاع الفولاذية أيضاً إلى متاحف التاريخ العسكري، في ضوء توفر مقاومين يطلبون الشهادة ويشتبكون من المسافة صفر، وفق ما تسجله يومياً وقائع معركة «طوفان الأقصى» وحرب الاستنزاف على جبهة الإسناد في لبنان؟
لا يبدو الكيان الصهيوني قادراً على التصالح مع حقائق نهاية التاريخ عسكرياً
في صيف 2006، ثبت مقاتلو المقاومة اللبنانية في مواقعهم بمواجهة قوات الكيان الصهيوني، في معارك كانت تمتد بطول 12 ساعة، وتمكنوا من التنصّت على اتصالات الإسرائيليين، وأعطبوا سفينة حربية إسرائيلية من طراز «ساعر» أمام أعين المشاهدين على الهواء مباشرة. وفي وقت لاحق، ذكرت «واشنطن بوست» أنه عقب توقف الحرب، انخرط خبراء «البنتاغون» وغيرهم في جدل تغيير طرائق الحرب الأميركية في المستقبل. فقد اعتُبِرت، وبشكل واسع، نتائج حرب إسرائيل على لبنان كارثية. وبمجرد انتهاء القتال، حذّر قادة عسكريون أميركيون من أن الحرب القصيرة الدموية التقليدية نسبياً ألقت بظلالها على الكيفية التي سيقاتل بها أعداء الولايات المتحدة مستقبلياً. ثم بعث «البنتاغون» 12 فريقاً لإجراء مقابلات مع الضباط الإسرائيليين الذين قاتلوا في لبنان. كما أجرى الجيش الأميركي ومشاة البحرية (المارينز) سلسلة مناورات حربية لاختبار أداء القوات الأميركية في قتال عدوّ مماثل. ونظّم خبراء «مختبر القتال بمشاة البحرية» في كوانتيكو خمس مناورات ركّزت على نمط المقاومة وأدائها.
لقد نبّه كبار المسؤولين العسكريين إلى ثمن التركيز الشديد على «قمع التمرد» على حساب «القتال التقليدي»، لاحظين أن القوات الإسرائيلية تورّطت بشدة في مهامّ احتلال الأراضي الفلسطينية وقمع احتجاجات الفلسطينيين. ولذا، لم تبخل الإدارة الأميركية، عقب «طوفان الأقصى»، بخبرات «قوة دلتا» التي خاضت حروب مدن في الفلوجة والموصل في العراق، على إسرائيل، فأرسلت إلى الأخيرة ألفين من تلك القوة للمساعدة في استرداد المختطفين وألفين آخرين لمهام أخرى. ولربما نتذكر أن أولى محاولات التوغل الإسرائيلية برياً، عقب «طوفان الأقصى»، جاءت من شرق خانيونس، لتقع القوة في كمين محكم للمقاومة أوقع قتلى وجرحى، ودمر دبابة وجرافة على الأقل. والمفارقة أنه بعد أيام من تلك الواقعة، صدر بيان عسكري أميركي حول مقتل 5 أفراد من القوات الأميركية شرقي المتوسط، في حادث مروحية أثناء التزود بالوقود. لكن الشكوك حامت حول هذه الرواية، بعدما ذكر الكولونيل دوغلاس ماكريغور، مستشار وزير الدفاع الأميركي السابق، أن أفراداً من القوة الأميركية حاولوا دخول غزة، قبل الهجوم البري الصهيوني بأيام، لكنهم عادوا أشلاء.
من المهم دراسة رد فعل الغرب على صدمة «طوفان الأقصى»، واندفاعه في دعم إسرائيل وتسليحها وإمدادها بخدمات لوجستية واستخبارية، ودفاع ديبلوماسي وقانوني عن جرائمها، والتعامل مع حدث 7 أكتوبر باعتباره تهديداً وجودياً للكيان الصهيوني – مع أنه ربما ليس كذلك وفق تقييم عقلاني -، واعتبار الرئيس الأميركي أن المقاومة الفلسطينية، على غرار روسيا، عدوّ وتهديد لأميركا والغرب، وضلوع نواة النظام الاستيطاني العالمي ممثلاً بالدائرة «الأنكلوساكسونية» (Anglo Sphere)، أي أميركا وكندا وبريطانيا وأستراليا ونيوزيلاندا، في قيادة الحرب في وزارة الدفاع الإسرائيلية في تل أبيب، والمشاركة بضباطها وخبرائها وطائرات التجسس والجمع الحربي و«قوة دلتا» الأميركية لحرب المدن، والتي شاركت استخباريّاً وعملياتياً في عملية النصيرات يوم 8 أيار 2024، لاستنقاذ أسرى إسرائيليين، وربما خسرت أفراداً.
يرى أستاذ العلاقات الدولية في جامعة بوسطن والكولونيل الأميركي السابق، أندرو باسيفيتش، أن صراعات العصر الصناعي المسلحة بلغت آفاق فتك وتدمير جديدة، وأن ثقة الغرب في قدرة الحرب على حل المشكلات تلاشت تماماً بنهاية الحرب العالمية الثانية، لتصبح تلك القوى بعد الحرب «كبرى» بالاسم فقط، فيما بقيت أميركا وإسرائيل تقاومان هذا الاتجاه. كما يلاحظ باسيفيتش أنه رغم تمتع إسرائيل، إقليمياً، بهيمنة عسكرية واضحة، تظهر الأحداث أن هذه الهيمنة لم تترجم فائدة سياسية ملموسة. وبدلاً من تعزيز فرص السلام، أنتج العدوان مضاعفات وتعقيدات أكثر بكثير. وقد بدأت إسرائيل تصطدم بالحقيقة المشار إليها منذ اجتياح لبنان في 1982، والذي ثبت أنه نذير بأن القادم أسوأ. فمنذ بداية الثمانينيات، كانت أيام «مجد» الجيش الإسرائيلي قد انتهت؛ وبدل توجيه ضربات خاطفة صاعقة في عمق العدو، صار سرد التاريخ العسكري الإسرائيلي تسجيلاً كئيباً لحروب قذرة: صراعات ومواجهات غير تقليدية ضد قوات غير نظامية تسفر عن نتائج عقيمة. وبات النصر في حروب إسرائيل وهماً، والتعويل على استسلام عدوّ اليوم كشراء تذاكر اليانصيب لدفع قروض مستحقة السداد.
بنهاية التاريخ عسكرياً، انتهت إلى الأبد احتمالات نجاح حروب كبيرة في حلّ مشكلات كبرى. ولا أحد بكامل قواه العقلية، إسرائيلياً أو حتى أميركياً، يمكنه أن يصدّق أن مواصلة اللجوء إلى القوة المفرطة سيعالج أسباب اشتعال العداء لإسرائيل وأميركا في العالم الإسلامي. لذا، فإنّ التوقع بأن استمرار اللجوء إلى القوة قد يفضي إلى نتائج أفضل محض هراء، فيما لا يبدو الكيان الصهيوني قادراً على التصالح مع حقائق نهاية التاريخ عسكرياً. يضع انهيار التقاليد العسكرية الغربية المشروع الصهيوني في مواجهة خيارات محدودة، لا يبدو أيٌّ منها جذاباً. وإذا كان الإسرائيليون يميلون إلى الثقة بالأسلحة التي تزوّدهم بها أميركا، ويأملون في الوقت نفسه تحسّن الأمور، فالمتوقع أن يستمروا في التمسك بتاريخ ونمط عسكري منقضي الصلاحية.
بالنتيجة، يتصاعد منحنى الانحطاط الاستراتيجي ليهدّد موقع الكيان الصهيوني وأهميته ودوره الوظيفي في بنية الإمبريالية الغربية، ما يمثّل نذير شؤم للغرب وهيمنته على منطقتنا والعالم وللنظام الدولي أحادي القطبية. لا بل تُعتبر حالة المشروع الاستيطاني الصهيوني، ضعفاً وقوةً، مؤشراً مهمّاً إلى قوة أو تراجع المشروع الغربي بركائزه الأربع الرئيسيّة: الإمبريالية والرأسمالية والعنصرية والفاشية.
سيرياهوم نيوز1-الاخبار اللبنانية