بول مخلوف
هذه الحرب أسدت خدمة معرفيّة، بالمعنى الابيستيمولوجي، لأولئك المُتَّهمين بجُنحة «الأيديولوجيا». هذه الحرب فضيحة مدوِّية في كشفها أيديولوجيا «اللاأيديولوجيين». لا شيء بوسعه الاختباء في الحرب، بما في ذلك بواطن الأرض أو ما نقول عنه الركام. الأيديولوجيا، جغرافياً، هي ركام المرء. إنها ما يختزنُه بداخله، ولعلَّ القول الأدق إنّها مُخزّنة بداخله.
في العقد الأخير من الزمن، تفشّى في العالم العربي وباءٌ بدا أشبه بجائحة اسمها «اللاأيديولوجيا». المُضادّات الحيوية منقطعةٌ من الأسواق كون معظم المكتبات العريقة في العالم العربي أُغلقت، وحركة دور النشر الجدّية، التي تنشر الكتب الرصينة وليس روايات «كتّاب» الورش الإبداعية وشعر «شعراء الشباب» خجولة. محمد بركات ونديم قطيش كانا يوماً ما من هؤلاء «الشعراء الشباب» ونشروا دواوين شعرية. والأهم أنّ هناك إفراطاً في التفلسف وطلباً قليلاً على الفلسفة. فالكثير من اللاأيديولوجيين الذين يستهويهم الفنّ المركَّب والفنّ المفهومي مثلاً، لو سألناهم عن ماهية الأيديولوجيا لتلعثموا، بدؤوا البحّ كأن السؤال جعل حنجرتهم تجف، أو غيّروا الحديث ونظروا إلى تحت متظاهرين بلفِّ سيجارة أخرى. اللاأيديولوجيّ إذا كان مدخِّناً، يفضّل تبغ اللف عن التبغ المعلّب.
(نهاد علم الدين)
المصاب رقم صفر بهذا الوباء، أي اللاأيديولوجي الأول، كان قد وضع مقداراً من نظرية كارل بوبر عن «المجتمع المفتوح»، وأضاف قدراً من تأويلٍ قاصرٍ وكسول لمفاهيم مدرسة فرانكفورت، ومزجَها مع بهاراتٍ يابانيّةٍ من صنف «نهاية التاريخ» لفوكوياما، ثم شربَ الجرعة بعدما خَلُصَ إلى أنّ الحلّ في المجتمع العربيِّ المأزوم لهو التحلّي باللاأيديولوجيا. فزبدةُ الأنظمة العسكرية هي الأيديولوجيا، كذلك الأمر عند الحركات الإسلاميّة، وفي التجارب اليساريّة أيضاً، وقد أخفقت هذه الأنساق برمّتها لأنها أيديولوجيّة، والحال عند اللاأيديولوجي، أنّ الأيديولوجيا لا تجلب سوى الجلبة، والاستبداد والهزيمة، فلمَ وجع الرأس؟
في العقد الأخير من الزمن، وخصوصاً بعد فورة الثورات العربية، وما نجم عنها من طفحٍ جلديّ ناجم عن حساسيةٍ سبّبَها موسمُ الربيع، صار الحديث عن اللاأيديولوجيا حديث مقهى. غدا كفنجان إسبريسو يطلبه الجميع بسهولةٍ واسترخاء. صار الكلامُ عن اللاأيديولوجيا يتردّد كالسعلة، وقد صارتِ اللاأيديولوجيا معياراً يحدد ما إذا كان المرء صالحاً، أي يؤمن باليونيفيل والخوذات البيضاء، أم طالحاً يميل إلى الكفاح المسلّح، و«حزب الله ». منذ ذلك الوقت، باتتِ اللاأيديولوجيا انتماءً يتباهى به المنتمي إلى هذه النزعة الفكرية الهُلاميّة؛ التي تتيح للاأيديولوجي رؤية مبسطة للعالم، وسحب نفسه من «السرديات الكبرى»، والحفاظ على مكانةٍ نقيّةٍ لا يلوِّثها الواقعُ المحموم بإشكالياته وتقلباته. هكذا، زخر معجم الثائرين والمنتفضين، والمثقفين اللاأيديولوجيين، بمصطلح أيديولوجي كوصمٍ يطارد كلَّ من ينحاز إلى المقاومة وينتمي إليها.
على أنّ مدلول مصطلح أيديولوجيا، عند اللاأيديولوجيين، هو كما تنقله قناة «سي.ان.ان »؛ فالأيديولوجيُّ هو فاشيٌّ، إرهابيٌّ، ودائماً مخرّب، إنه الممانعُ، ومنه يولد متحوِّر جديد اسمه نيو ممانع. الأخير ضد بشار الأسد لكنه مع المقاومة الإسلامية في حربها ضد إسرائيل. هكذا يعرّف اللاأيديولوجيّ الأيديولوجيين من حوله، وهو النقيُّ دائماً، يتموضع بالنفي، فهو كارهٌ للفاشيّة، مهذّب لا يمارس التخريب. إنه منضبطٌ يحترم قوانين الدول التي استقبلته كمهاجرٍ في عواصم أوروبيّةٍ، وهو يُدين الإرهاب بقدر ما يُدين بيرس مورغان «هاماس». على كلٍ، هذا حديث طويلٌ لا مجال له الآن، وقد نأتي إليه لاحقاً.
اللاأيديولوجيّون لا يشاهدون قناةَ «المنار» لأنها إسلاميّة. لا يقرؤون جريدةَ «الأخبار» لأنّها جريدة «ممانعة» تنطق باسم التخريبيين. بدلاً من ذلك، يكتبون في منصّاتٍ غير أيديولوجيّةٍ تمتاز بأخلاقيّاتٍ صائبةٍ سياسياً؛ وهي أخلاقٌ تعد مستقيمةً، صارمةً، كانطيّة، وهذا طبعاً، وفقاً لمعايير «وايت مان». واحدة من هذه الأخلاقيّات مثلاً، التدقيق بالمعلومة ومحاربة الأخبار الزائفة. لكنّ اللاأيديولوجيين، على ما يبدو، مصابون بضعف نظرٍ رغم سماكة عدَسات النظر التي يضعونها. نظّاراتُ العظام عند اللاأيديولوجي تضاف إلى تبغ اللفِّ، إنها أيضاً جزءٌ من الهوية. فالأخبار المضللة والكاذبة التي يبثّها الإعلام الذي يشتغل كـ«عبد منزل» لإسرائيل ولأنظمة الخليج، يغضّ النظر عنها؛ لا تُقوَّض ولا تُفنَّد ولا تُلاحق، على عكس أخبار ومقالات الأيديولوجيين، إذ يُطالِب اللاأيديولوجي بتكميمها ومحاصرتها، وأبلستها.
يكتب اللاأيديولوجي، وهو شغِّيلٌ في معمل صناعة الوصمِ وبثِّ بروباغندا الأبلسة، في تلك المنصّات إذاً؛ تلك المنصات التي تتعامل مع الهويات بوصفها جماعاتٍ قائمة بالفعل، غير أنّه في حال شذتْ جماعةٌ من هذه الجماعات عن التناغم مع سياسة السائد، وعن المهادنة مع «روح العصر»، أو باختصار مع الأيديولوجيا، تصبح الجماعة المعتكِفة، شيطاناً ينشر الخراب والإرهاب، فيما كلّ من يميل إلى أفعال هذا الشيطان، فهو كمن عقَد صفقة فاوست، بالتالي وجب القيام، كما قال أحد المنظّرين الذين يحاربون الأيديولوجيا «بنكبة جديدة علّهم يستيقظون». لقمان سليم الذي دعا إلى إبادة طائفةٍ برمّتها، صار، عند اللاأيديولوجيين، بطلاً إغريقيّاً قدّمَ نفسَه قرباناً على مذبح «صفر خوف». أما والدته، أم لقمان، فقد شبّهها اللاأيديولوجي بمريم العذراء، وهذا لا يمتُّ إلى الأيديولوجيا بِصِلة، أترى؟
طيّب. إمّا نحن أمام إسقاط حيث يلصقُ غير الأيديولوجيّ ما فيه بغيره؛ أو نحن أمام وعيٍ مُخاتِل، أسيرٍ لنظريّاتٍ تعود إلى القرنين الماضيين، لا يزال ينظر إلى الأيديولوجيا، كما جاء التعريف بها أيام ماركس الشاب، على أنّها تصورات الطبقة العليا وأفكارها عن العالم، وهي نظريات «رفاقه» وصاحب المصنع الذي يشتغل عنده. في الحالتين، نحن أمام «زعبرة» سياسة عربية ليست بجديدة، أدت فترةَ تدريبها، «إنترشيب»، في حرب العراق عندما خلُصَت إلى أنّ الحرب على العراق هي تحريرٌ لبغداد. تلك الحرب لم تكن احتلالاً ولا فعلاً همجيّاً، فاللاأيديولوجي شاء أن يصنّفها كطريق من طرق الانتقال نحو الديموقراطية بعد التخلّص من الطاغي من قبل الكوماندوس. اضحك تضحك لكَ الدنيا.
من جيجك إلى غرامشي مروراً بألتوسير، يكثر اللاأيديولوجيون الاقتباس عن هؤلاء في مقالاتهم، لكن الظاهر، أنّهم يجهلون ماذا يقول هؤلاء. لقد فات اللاأيديولوجيين، على ما يبدو، أنّ المقتَبسَ عنهم، نظّروا إلى الأيديولوجيا باعتبارها نسقاً موجوداً لا فرار منه. جيجك الذي يحبونه كثيراً، وصّفَ الأيديولوجيا على أنها-باختزال- المخبوءُ الذي يظهر عبر الممارسة. يستعين جيجك بجملة المسيح الأخيرة وهو على الصليب: «إنّهم يفعلون ما لا يعرفون». عند جيجك، بلى هم يعرفون ماذا يفعلون والأيديولوجيا هي التي تحثّهم على ارتكاب الفعل. ببساطة الأيديولوجيا هي أنتَ كفاعل، وبوسعنا بشكلٍ ما، قراءتها في مقولة سارتر في تعريفه للذات الإنسانية: «أنتَ ما تفعله لا ما تقوله». اللاأيديولوجي بمجرد تعليقه على موقف، أو ذمّه من يتخذ موقفاً في الحرب مع «حزب الله » وإسرائيل، فإذ بأفعاله هاته تفضح كل ما يحاول إخفاءه، والتظاهر بتعاليه على الثنائيات، عبر الكلام.
لا يحتاج اللاأيديولوجي إلى دروس خصوصيّةٍ في الأيديولوجيا وفي مفاهيمَ فلسفيّة يعشق استعمالها فقط، إنّما عليه أن يفهم، أنّه بإمكانه قول ما يشاء، سامي الجميّل الذي ينادي بالعدالة الاجتماعية هو رئيسُ حزبٍ أيديولوجيّته تقوم على ثلاثيّةٍ أرستقراطية: «الله، الوطن، العائلة». يبقى أنّ كل ما يأكله ويشربه، وما يكتبه وما يعارضه، ونحن نقرأه ونتابعه، هو أيديولوجيّ. في هذه الحرب، لقد تعرّفنا عن كثب، إلى اللاأيديولوجي. إنّه الفاشيُّ الجديد. هو كائنٌ أيديولوجيٌّ مكبوتٌ؛ إنّه كالبورجوازي المتعلِّق بوالدته وكثير الخجل، يتلطّى بالصمت وينطق بما يرغب بفعله في السرّ، إلا أنّ فعله يبقى منوطاً بالرغبة. إنه انتهازيٌّ يعرف كيف يتنقل من طاولة إلى أخرى في نادي علاقات القوة. يحقّ للاأيديولوجي فعل ما يشاء. أن يشمتَ. أن يخرس. أن يصمت… لكن أيديولوجيته ناطقة غير صامتة، مرئية وواضحةٌ عين الشمس.
يرى في إسرائيل بابا نويل يحمل كيساً بداخله هديةً: إنقاذ البلاد من «الشبح الأسود»
لقد تعرفنا إلى اللاأيديولوجي عن حقّ، والأمل أن يتعرّف إلى نفسه. فاللاأيديولوجي الذي دائماً ما تباهى بانفتاحه على الآخر، وحاضر في الجامعات والمدارس حول الآخر والمختلف، وجد مهنةً جديدةً تليق به في زمن الحرب: صار صيّاداً مسعوراً مهمته أن يتصيّد كلّ من ينحاز إلى «حزب الله » و«حماس» وإسباغه بالوصم. اللاأيديولوجي الذي يسقط ما فيه على غيره، يصنّف المنحازين إلى المقاومة بالفاشية، والدوغمائية، لكنه يجد، على طريقة حازم صاغية، مقعداً له كمنظّر سياسيٍّ، مع قوى سياسية كاريكاتورية اسمها «الكتلة الوطنية ». اللاأيديولوجي الذي يرفع شعار «لا لكاتم الصوت»، إنّ صوته ليس خفيفاً ولا حتّى همساً خفيضاً. صوته معدوم حيال ما يحدث من إبادةٍ وتدمير وقتلٍ مسؤول عنه كيان العدو. بل إنّ اللاأيديولوجي كونه كائناً مختصّاً بالإسقاط، ينفِّذُ إسقاطَه جيداً. ينحو صوبَ فتح جبهةِ إسنادٍ لإسرائيل، في تحميل «حزب الله» مسؤولية الخراب الحاصل، هكذا يصير «حزب الله »، وفقاً لهم، إسرائيل.
اللاأيديولوجيا وباءٌ. اللاأيديولوجي قوّةٌ من قوى الموت. إنّه لا يحب الحياة كما يزعم. هو على نقيض مِن كلِّ ما يقوله، وممارسته تفضحه رغماً عن ثرثرته التي تبدو مونولوغاً طويلاً مملاً. التيار اللاأيديولوجي، بالفعل، ميغافون. إنّه بوقٌ كبير. بقّاقٌ. كثيرُ الكلام. paroles paroles paroles كما غنّت داليدا. يُفرط اللاأيديولوجي في الحكي، ويظهر نفسه على أنّه «إنسانيٌّ مفرِطٌ بالإنسانيّة»، غير أنه في الممارسة، فاشيٌّ يرى في إسرائيل بابا نويل يحمل كيساً بداخله هديةً: إنقاذ البلاد من «الشبح الأسود» الذي يؤرق العالم الجديد الشجاع. هذا ولتيري إيغلتون تعريفٌ ثمينٌ للأيديولوجيا: إنّها (الأيديولوجيا) «رائحةُ فمٍ كريهة لا فكاك منها»، ما يعني أنّ الأيديولوجيا لصيقةٌ جدّاً بالمرء وأنّها تبث وتتفشّى. اللاأيديولوجيّون يثرثرون كثيراً، عليهم شربُ القليل من الماء، عليهم أن يقرؤوا أكثر، عليهم أن يعلموا أنّنا نشمّ رائحتَهم الكريهة
سيرياهوم نيوز١_الاخبار