- محمد نور الدين
- الخميس 9 كانون الأول 2021
في خضمّ حراك إقليمي مكثّف ولافت بين أكثر من عاصمة، تَبرز العلاقات التركية – السورية بوصفْها من بين الأكثر تعقيداً، جرّاء ملفّات خلافية كثيرة، في مقدمّها ملفّ اللاجئين. وإذا كانت هذه القضية تكتسب أبعاداً «وطنية» في لبنان، نظراً إلى تأثيرها على التوازنات الداخلية الاجتماعية والطائفية، فإنها تتّخذ في تركيا أبعاداً سياسية واضحة. بخلاف لبنان، لا مشكلة لدى النظام التركي في منْح الجنسية لأعدادٍ كبيرة تصل إلى مئات الآلاف من اللاجئين، خصوصاً أنه مع مرور عشر سنوات على وجود معظم هؤلاء في تركيا، يزداد العمل على إعادتهم إلى بلادهم صعوبةً. وإذا كانت ظروف العمل والمعيشة والتعليم تفاقم من تلك الصعوبة، فإن أنقرة لا تبذل، بدورها، أيّ جهد جدّي على هذا الصعيد، بل هي تستخدم اللاجئين عملياً في أكثر من اتجاه، يمكن تلخيصها بالآتي:
الأوّل، محاولة إبقائهم كورقة في وجه النظام السوري، تحت شعار ضرورة توفير الأمن والأمان قبل عودتهم، على رغم أن غالبية الأراضي السورية باتت تنعم بالأمن، وتنتظر مَن يساعد على تنميتها.
والثاني، إدامة ما يدرّونه عليها من مردود مادّي بالعملة الصعبة، من جانب الأمم المتحدة، التي تساهم في تغطية كلفة خدمات حياتية وتعليمية لهؤلاء، تماماً كما في لبنان، حيث بدأت تظهر طبقة اجتماعية تعتاش من صناديق المنظّمة الدولية، وترفض عودة اللاجئين، كونها ستفقد بذلك «مورد رزقها».
والثالث، استمرار ابتزاز أوروبا التي تدفع لتركيا بضعة مليارات يورو سنوياً، من أجل إبقاء اللاجئين على أراضيها، وهو ما يثير انتقادات المعارضة، التي ترى أن تركيا تحوّلت إلى مستودعٍ للاجئين، السوريين وغير السوريين، وحاجز فاصل بين أوروبا وبلدان الشرق الأوسط.
والرابع، أن السلطة الحاكمة في تركيا تبحث، «بالسِّراج والفَتيلة»، عن المزيد من الأصوات في الانتخابات الرئاسية والنيابية، ليأتي التجنيس عاملاً في هذه اللعبة، من دون أن يعرف أحد حجم عمليات التجنيس التي تُعدّ بمئات الآلاف، بل أكثر. وفي هذا الإطار، تؤكّد الإحصاءات أن 80% ممّن يدخلون تركيا من السوريين، لا يعودون، ولا تحاول السلطات إعادتهم، بل إن كلّ ما تشكو منه هو أن توزيعهم الديموغرافي «غير عادل»، إذ إن 85% منهم يعيشون في عَشر مدن كبرى.
أمّا العامل الخامس، فهو أن جزءاً من هؤلاء يُستخدم في عمليات التجنيد العسكرية والاستخبارية، للقيام بأدوار لا تزال تركيا تمارسها في سوريا، وفي أكثر من منطقة. وهنا، يبرز الحديث عن عشرات الآلاف مِن الذين يتمّ استخدامهم غبّ الطلب في ليبيا والقوقاز، من مسلّحي إدلب ومن اللاجئين أنفسهم في الداخل التركي، والذين لا شكّ في أن أنقرة تريد استخدامهم في أيّ مفاوضات لاحقة. كما ليس من المستبعد أن يكون في نيّتها، كما يصرّح مسؤولوها من وقت إلى آخر، أن تعيد اللاجئين، أو قسماً منهم، إلى بلادهم، على أن يقيموا في غير المناطق التي جاؤوا منها، ويبنوا مدناً جديدة لهم في المناطق المجاورة للحدود التركية، بحيث يشكّلون تلقائياً حاجزاً جغرافياً من لون واحد، عرقياً ومذهبياً، يكون في المستقبل حزاماً ديموغرافياً للأمن القومي التركي.
في ظلّ هذه الظروف، يرى الكاتب تانجو بنغون، في صحيفة «ميللييات» المؤيّدة للسلطة، أن عودة اللاجئين إلى سوريا ستكون «ضرْباً من الخيال»، محذّراً السلطة، كما المعارضة، من استمرار توظيف تلك المسألة في السياسة الداخلية.
فشلت تركيا في ضمّ ولاية الموصل في شمال العراق لكنها عملت لتعويض ذلك في لواء الإسكندرون
وفي هذا الإطار، لا يدفع الخطاب التركي الرسمي، أو الإعلام الرسمي، في اتّجاه التشجيع على العودة، بالنظر إلى أن ذلك يتطلّب التفاوُض مع الدولة السورية برئاسة بشار الأسد، الذي لا يزال إعلام حزب «العدالة والتنمية» يَصِفه بـ«رئيس النظام». وينطلق الكاتب سليمان سيفي أوزغون، في صحيفة «يني شفق» المؤيّدة لإردوغان، بدوره، من مناقشة قضية الإسكندرون في «مجلس الشعب» السوري أخيراً، ليكرّر حديثه عن أن «الأسد لا يمثّل القرار الوطني السوري، وهو ليس سوى دمية بيد روسيا»، مبرّراً، بالتالي، لإردوغان قراره عدم الالتقاء بنظيره السوري. المفارقة أن أنقرة تمارس، هنا، ازدواجية مكشوفة؛ فهي اعترفت بحكومة غرب ليبيا، برئاسة فايز السراج، ووقّعت اتفاقيات معها، واعتبرتها شرعية، فيما هي لا تمثّل حتى نصف الليبيين. وفي الوقت نفسه، لا تعترف بالأسد، على رغم أن الدولة السورية تسيطر على معظم أراضي سوريا، ومعترَف بها في الأمم المتحدة.
ويتمسّك إردوغان بهذا الموقف نتيجة عاملَين: الأوّل، هو أن أن المعارضة تدعوه منذ سنوات إلى اتّخاذ خطوة إيجابية تجاه سوريا، وبالتالي، إذا فعلها، يكون كَمَن يعترف بأخطائه السابقة على امتداد سنوات مرّت؛ والثاني، أن سلوكه تجاه الأسد تتحكّم به عُقدة شخصية لا يمكن إخفاؤها، وهي أنه أراد الإطاحة بالنظام لكنه فشل، الأمر الذي مثّل سبباً رئيساً في إحباط أحلامه بالسيطرة على المشرق العربي، ومنه على كامل العالم العربي، وإذا به بدلاً من الصلاة في «الجامع الأموي»، يصلّي انتقاماً في «آيا صوفيا»، بعدما حوّل الكنيسة إلى جامع، في ظلّ اعتراضٍ خجول من قِبَل الدول والقوى المسيحية الغربية والشرقية، على حدّ سواء. ولا يمكن تبرئة كلّ من إيران وروسيا من مسؤولية تمادي إردوغان في موقفه المتجاهِل لوجود الدولة السورية، على اعتبار أنهما، لحسابات غير مقنعة، لم تبذلا الجهد الكافي لضمّ سوريا إلى مسار أستانا، أو أنهما لم تمتنعا عن المشاركة فيه من دون ضمّ دمشق، المعنيّة الأولى بما يتقرّر في الخارج في شؤون تمسّها في الصميم.
فشلت تركيا في ضمّ ولاية الموصل في شمال العراق، في عام 1926. لكنها عملت، بشكل حثيث، على تعويض ذلك في لواء الإسكندرون، الذي سمّته لاحقاً «هاتاي»، اشتقاقاً من كلمة «الحثيين»، الذين سادوا المنطقة ردحاً طويلاً من الزمن. وقد تحقّق لها ما أرادت رسمياً، في 24 تموز 1939، بعد شهر من الاتفاقية بين تركيا وفرنسا، في 23 حزيران من العام نفسه، في مؤامرة حيكت بين البلدين، بعيداً عن أيّ دور للحكومة السورية، وهو ما أدى إلى استقالة الرئيس هاشم الأتاسي آنذاك احتجاجاً. يقول سليمان سيفي أوزغون إن بيان مجلس الشعب بشأن سورِيّةِ اللواء، وضرورة عودته يوماً ما إلى الحضن السوري، هو «إعلان يجرّ البلدين إلى الحرب»، وهو «ليس مجرّد دعاية داخلية، بل تهديد رسمي»، مضيفاً، في ما يمثلّ بيت القصيد، أن الأسد «عنوان خاطئ». وفي هذا السياق، ليس بعيداً عن الحقيقة أن تركيا تحاول الاحتفاظ باحتلالها لعفرين وإدلب، لتكونا خطّ دفاع أوّل جغرافياً عن لواء الإسكندرون، فضلاً عن أنها تعتبر كلّ الشمال السوري جزءاً من حدود «الميثاق الملّي» الذي تعمل على بَعثه، من خلال احتلال أجزاء من الشمال السوري ومن شمال العراق. وعليه، يَظهر أن خيطاً واحداً يربط جملة من القضايا، من اللاجئين السوريين في تركيا، إلى احتلال الشمال السوري ومسألة لواء الإسكندرون، إلى عدم الرغبة في الجلوس مع الأسد، بما يجعل من تركيا مصدر تهديد لاستقرار سوريا ووحدة أراضيها.
(سيرياهوم نيوز-الاخبار)