| هداية طه
بيدين أنهكما التعب، يحرّك أبو محمود مقوده، سائق الأجرة العتيق الذي شارف على بلوغ الستين من عمره، لا ينفك عن إطلاق بوق سيارته كلما صادف شخصاً يقف على قارعة الطريق. يقطع أبو محمود مسافات بسيارته قبل أن يحظى براكب. يسأله الأخير مباشرة عن تسعيرة اليوم، فيجيبه متنهّداً: “اليوم الدولار 80 ألف ليرة، عطينا 100 والله يعوّض عليك”.
تصعد إلى سيارته العمومية امرأة في مطلع عمرها، يوصلها إلى منطقة الحمرا في بيروت، تنزل السيدة من دون أن تدفع قرشاً واحداً. يخرج أبو محمود من جيبه دفتراً صغيراً يشبه تلك الدفاتر الصفراء التي يقتنيها أصحاب الدكاكين لتسجيل ديون الزبائن. لكنه كذلك بالفعل، دفتر “الديون”. يقول إنه بات “يديّن” الركاب الذين يعرفهم حتى يتمكّن من مواصلة العمل في هذه المصلحة التي ضاقت على أهلها فلم تعد تطعمهم خبزاً. ويشرح كيف أنه يتحاشى أن يدخل في سجال أو نقاش يصفه “بالعقيم”، مع أولئك الركاب الذين لم يتقبّلوا بعد فكرة أن يصبح بدل الأجرة 80 أو 100 ألف ليرة بعدما كان سقفه ألفي ليرة لبنانية “أيام العز”، أي قبل الأزمة الاقتصادية المعيشية وغلاء الدولار.
ولكن، في الواقع، يحصل يومياً أن يشهد الأشخاص الذين يستقلون سيارات أو “فانات” النقل العمومي في لبنان على مئات السجالات التي تجري بين راكب الأجرة والسائقين.
سجالات وشكاوى تصل بالعديد من ركاب الأجرة إلى الترجّل من السيارات العمومية التي يستقلونها بعد أن يصعقوا “بالتسعيرة” التي لم يعد أحد يعرف وفق أي معيار تخضع، فهي تختلف من سائق إلى آخر ومن سيارة عمومية إلى فان. و”كلّ يغني على ليلاه”، حسبما يشير بعض الركاب. لكن قسماً منهم يعلمون جيداً أن ارتفاع “التسعيرة”، ما هو إلا نتيجة لارتفاع الدولار. من بات يفهم ذلك، وجد للسائق أعذاراً لرفع أجرته، بينما ذهبت شريحة أخرى من الناس لإيجاد البدائل علّها تحافظ هي أيضاً على ما تبقّى من رواتبها الآخذة بالتآكل مع كل طلعة جنونية للدولار.
يطلق المواطن اللبناني صرخته من غلاء المواصلات. لكن صرخة السائقين العموميين ترتفع أيضاً. “الشغل خفّ، ويا دوب عم نطلع حق البنزين”، يقول أحد السائقين.
تقلّب في تعرفة “السرفيس”
“لا تعرفة ثابتة لسائقي السيارات العمومية، بل هي متغيّرة وتخضع لارتفاع الدولار أو انخفاضه، فضلاً عن ارتفاع أسعار البنزين وانخفاضها”، تقول سحر وهي موظفة. تضطر يومياً إلى دفع 240 ألف ليرة أجرة مواصلات بعد أن وصلت تسعيرة السيارة العمومية إلى 120 ألف ليرة عن الراكب الواحد ضمن المنطقة الواحدة. تقول سحر غاضبة: “من غير المعقول أن أدفع نصف راتبي للمواصلات!”.
كمثل سحر تتكلّف مروة يومياً بحدود 260 ألف ليرة للوصول إلى عملها والعودة منه، لكنها تعتبر في الوقت نفسه أن من حق سائقي السيارات العمومية رفع التسعيرة بعد ارتفاع أسعار الوقود.
هذا الارتفاع وضع سائقي السيارات العمومية في مأزق يومي. حسن سائق أجرة في الضاحية الجنوبية لبيروت، يقول إنه يحتاج يومياً إلى مليون ونصف المليون أو مليوني ليرة لبنانية لتعبئة سيارته بالوقود، و”أحياناً كثيرة لا أجني هذا المبلغ أصلاً من عملي اليومي”. ويضيف: “يظن الناس أن سائق التاكسي يرفع التسعيرة لكي يربح مالاً أكثر، لكنهم لا يعلمون كم نعاني يومياً لتحصيل قوت يومنا”.
يعمل حسن 12 ساعة متواصلة يومياً، يطمح لأن تصبح التسعيرة بالدولار فهذا قد يخفّف قليلاً من معاناة كل السائقين العموميين. بنظر حسن ثمة أيضاً عامل مهم ساهم في التأثير سلباً على عملهم بشكل كبير، فلا قانون اليوم يحميهم من المزاحمة الحاصلة في السوق مع انتشار اللوحات العمومية المزوّرة. هذه الظاهرة برزت أكثر مع تفاقم الوضع الاقتصادي والمعيشي. ويتابع قائلاً: “سائقو السيارات العمومية المزوّرة يطلبون نصف الأجرة التي نطلبها نحن من الراكب وهذا فظيع، لأننا نحن المتضرّرون الوحيدون من هذا الأمر”.
يشكو سائقو السيارات العمومية المرخّصة من عدم ضبط ظاهرة السيارات العمومية المزوّرة كما كان يحصل في السابق. هذه السيارات يقودها اليوم أجانب أيضاً يستغلون الوضع المعيشي والأمني، ويعملون بأريحية من دون أي ملاحقة قانونية لهم، حسبما يؤكد السائقون.
هذه الصعوبات باتت مشتركة بين جميع سائقي السيارات العمومية على مختلف الأراضي اللبنانية، حيث لا يجد هؤلاء قوت يومهم وسط تخوّف من الآتي. مصطفى واحد من هؤلاء، يعمل بسيارته على خط بعلبك دورس، يبث شكواه قائلاً إن عمله تقلّص بنسبة 80 في المئة عمّا كان قبل الأزمة، موضحاً أن أكثر الزبائن ليس لديهم أي استعداد لدفع أكثر من 50 ألف ليرة كبدل لنقلهم من منطقة إلى أخرى، ولو كان ذلك على حساب السائق.
ويحكي مصطفى عن مزاحمة كبيرة يتعرّض لها سائقو النقل العمومي في المنطقة، حيث يغزو “التوك توك” السوق، ويعمل ليل نهار لنقل الركاب بين المناطق البقاعية. إذ “يفضّل معظم الناس اليوم التنقّل عبر “التوك توك” الذي يتقاضى نصف الأجر الذي نتقاضاه نحن من الراكب الواحد، إذ إن تسعيرته تتراوح بين 30 و50 ألف ليرة لبنانية فقط”.
“التوك توك” ملجأ الفقراء
وأنت تتجوّل بين مناطق البقاع أو الجنوب وحتى الشمال. من طرابلس وصولاً إلى عكار وكل مناطق الأطراف، حيث تبرز الأزمة بكل تجلّياتها، في ظل الفقر المدقع الذي يلف معظم ناسها، ستلحظ انتشار “التوك توك” على الطرقات هناك. هذه المركبة التي لا تصنيف رسمياً لها كوسيلة نقل عمومية حتى الآن، بات يقتنيها المئات هناك، لتكون مصدر رزقهم بعدما فقد العديد من هؤلاء مصالحهم، فيما أمست أجورهم لا تساوي ثمن قطعة واحدة من قطع السيارات باهظة الثمن.
تاريخياً، يعتبر “التوك توك” تطوّراً لمركبة الريكاشة اليابانية القديمة التي كان يجرها سائقها والتي كانت تجري على عجلتين. يصنع اليوم في الهند، بيد أنه سرعان ما لقي رواجاً في البلدان المكتظة، خصوصاً في مصر والعراق. ويبلغ سعره نحو 1500 دولار، ويصل إلى 3500 دولار بحسب حجمه وتجهيزاته.
على الطريق المؤدية إلى منطقة الهرمل (شمال شرقي لبنان) تصادف “التوك توك” الذي ذيّله صاحبه بعبارة “من شر حاسد إذا حسد “. صاحبه هو نفسه الذي باع سيارته التي كان يعمل عليها كسائق عمومي ليشتري “تكتوك”، فهو اليوم وسيلة ربح بأقل التكاليف الممكنة، من دون أن يجبر على دفع الضرائب. سامر سائق “تكتوك”، يقول إن أغلب من اقتنى “تكتوك” باع سيارته ليشتريه ويعمل عليه، إذ يحقّق أرباحاً لا بأس بها.
أما سهيل، وهو سائق “تكتوك” من الهرمل، فيقول إنه بات مؤخراً ينقل التلاميذ إلى المدرسة بعد غلاء بدل النقل المدرسي. يلاحظ سهيل من خلال عمله أن هناك العديد من الموظفين في القطاعين العام والخاص باتوا يقتنون “التوك توك” كسبيل للخلاص من شبح انهيار العملة في ظل عدم رفع أجورهم التي لا تتعدى ثلاثة أو أربعة ملايين في أحسن الأحوال.
دولرة النقل العام؟
“مش عاجبك خليك بأرضك”، “مش عاجبك روح مشي”، عبارات يسمعها الركاب الذين يمتعضون من التسعيرة التي يضعها سائقو الفانات. ففي بيروت مثلاً تتراوح التسعيرة بين 40 و50 ألف ليرة، فيما يؤكد بعض الركاب أن التسعيرة ترتفع أيضاً مع ارتفاع الدولار، “وكأننا في سوق بورصة”، تقول فدا، وهي موظفة في مؤسسة إعلامية.
وعلى خط الجنوب بيروت مثلاً، وصلت التسعيرة إلى 250 ألف ليرة للراكب الواحد إذا أراد الوصول من حاصبيا إلى بيروت و200 ألف ليرة إذا أراد الوصول إلى بيروت قادماً من صور. ويشير بعض المواطنين الجنوبيين إلى أن التسعيرة باتت تنخفض في المساء وترتفع خلال النهار.
أما في الشمال فلا يبدو الحال أفضل على المواطنين هناك، إذ بلغت التسعيرة 150 ألف ليرة للراكب الواحد إذا أراد الوصول من طرابلس إلى بيروت. كذلك الأمر بالنسبة للراكب الذي ينوي الوصول من التل إلى وادي خالد.
أما في البقاع، فيبدو أن سائقي الفانات اختصروا الطريق على أنفسهم فباتت التسعيرة بالدولار حصراً أو على سعر الصرف.
هي إذاً دولرة لبدل النقل أو تعرفة النقل، يخاف المواطنون أن تعمّم فعلياً على كل أشكال المواصلات. فهل يحصل ذلك فعلياً، وهل هو قانوني؟
رئيس اتحادات ونقابات قطاع النقل البري بسام طليس يشدد على أنه لا وجود في القانون لدولرة النقل أو تعرفة النقل، والتي تصدر بقرار من وزارة الأشغال ووزير الأشغال العامة والنقل، بناء لدراسة مكوّنة من 17 عنصراً لدى المديرية العامة للنقل البري والبحري.
وعزا طليس الفوضى الحاصلة الآن إلى عدم التزام الدولة اللبنانية بتطبيق خطة النقل العام المستدامة والتي تم نقاشها مع رئيس الحكومة آنذاك عام 2011، على أن يتم تنفيذها أواخر عام 2021 ولكن ذلك لم يحصل.
النقل البري الرسمي مغيّب في عزّ الأزمة
يتفق رئيس الاتحاد العمالي العام بشارة الأسمر مع طليس فيما يخص فوضى التسعير، ويرده إلى غلاء الدولار والوضع المعيشي الصعب. لكن أين النقل الرسمي في لبنان؟ يؤكد الأسمر أنه لا قدرة للدولة على تأمينه.
من جهته، رئيس لجنة الأشغال النيابية النائب سجيع عطية كشف أيضاً عن أن تجربة تسيير الباصات في بيروت وبعض المناطق فشلت لأسباب عديدة، منها عدم وجود سائقين في مديرية النقل وسكة الحديد.
كذلك سلّط عطية الضوء على أزمة السائقين العموميين، كاشفاً بالأرقام أن هناك نحو 30 ألف نمرة عمومية في لبنان بين باصات (فانات) وسيارات أجرة، يقابلها العدد نفسه للسيارات ذات اللوحات المزوّرة.
هذا واعتبر عطية أن ملف النقل العام في لبنان تديره “مافيات” على حد قوله، مشدداً على أنه من الصعب تطبيق أي خطة للنقل العام في ظل ما وصفه بفوضى الخدمات في لبنان.
سيرياهوم نيوز3 – الميادين