| عبد الرحمن عادل
«اللفياثان» هو عنوان الكتاب الأشهر للفيلسوف الإنكليزي، توماس هوبز (1588-1679). واللفياثان، كائن بحري خرافي، له رأس تنّين، ويَرد ذكره مرّات عدّة في الكتاب المقدّس. أمّا هوبز، فيَستعمله ليُصوّر سلطة الحاكم أو الدولة التي يَستبدل بها الناس، ضمن عقد اجتماعي جديد، سلطة الدين أو اللاهوت. وقد تطوّرت نظرية هوبز هذه في الفكر السياسي الغربي، ونَتج منها «العقْد الاجتماعي» بين الدولة والمجتمع، والذي يتنازل بموجبه الأخير عن بعض حريّته للدولة مقابل الأمن والحماية. بدأ «اللفياثان» الحديث في مصر مع محمد علي، الذي أنشأ دولة قاهرة متغلّبة لا ترى المجتمع ندّاً لها، وإنّما خصماً يجب قهره وقمعه واستغلاله، وهي دولة تطوّرت وتضخّمت وامتلكت من وسائل القوّة والنفوذ ما لم يَعرف المجتمع مثله، بل عمدت إلى نزع كلّ عوامل القوّة من الناس واستأثرت بها، منكِرةً على الشعب حقوقه، ومتجاهلةً أن للسلطة حدوداً لا يجب أن تتجاوزها في علاقتها بمُواطنيها. كما أضحت أقرب إلى «بقرة مقدّسة» لا يجب أن تُمسّ، وإلّا أصابت الجميعَ لعنة الفوضى وعدم الاستقرار والتفكّك… إلخ. تعرّض هذا اللفياثان لهزّة عنيفة أخلّت بتوازنه في كانون الأول 2011، الأمر الذي جعل بعض الأكاديميين التابعين للدولة يعتبرون ما حدث آنذاك بمثابة كبوة للدولة، فكتبوا عن عودتها مرّة أخرى، وكأن الانتفاضة وضعت المجتمع/ الشعب، لأوّل مرّة في تاريخه، في المقدّمة، والدولة مِن خَلفه. ولهذا، فإن أوّل ما اشتملت عليه تلك العودة، هو عملية هندسة اجتماعية شاملة، وإعادة تشكيل للوطن والمُواطن، تضْمن ألّا يتكرّر سيناريو 2011 مرّة أخرى.
معالم الهندسة الاجتماعية الجديدة
استهدفت عملية الهندسة الاجتماعية الجديدة، إعادة تشكيل العلاقة بين المواطن والدولة، وإعادة تنظيم وترتيب الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية بأشكالها كافة، وفي ما يلي أهمّ معالم هذه العملية:
1- موت السياسة: أنهت الدولة كلّ أشكال الحياة السياسية الحقيقية في المجتمع، بداية من التكوينات التي يمكن أن تمثّل الشعب وتعبّر عنه كالأحزاب السياسية، وحتى إبداء الرأي في الشأن السياسي ولو على الصفحات الشخصية لوسائل التواصل الاجتماعي. ولعلّ أحد أبرز الأمثلة على هذا، أنه أُجريت في مصر انتخابات برلمانية في عامَي 2015 و2020، كما أُجريت انتخابات رئاسية في عامَي 2014 و2018، لم تلعب الأحزاب السياسية أيّ دور فيها، فيما أدّت إلى تصعيد عبد الفتاح السيسي، الذي استقال من منصبه العسكري لأجلها، وخاضها ضدّ مرشّحين اختِيروا بعناية حتى لا يشكّلوا تهديداً له، وفاز في المرّتَين بحوالي 97% من الأصوات، في ظلّ انخفاض حادّ في إقبال الناخبين. كذلك، يمكن القول إن العقد الاجتماعي الجديد بعد عام 2013، كان ينصّ على التأييد المطلَق للدولة، والتنازل عن الحريات كاملة في مقابل حماية المواطن من الإرهاب المحتمَل (التفويض الذي طلبه السيسي كان بمثابة عرْض العقد الجديد على الشعب). ومن هنا، تبنّت الدولة نموذجاً بالغ الصرامة في التعامل مع المجتمع: فإمّا الانصياع التامّ، أو نزع صفة المواطَنة عن الناس ووضعهم في فضاءات الاستثناء (المعتقلات/ مراكز الاحتجاز السرّية)، ليتحوّل المواطن إلى منبوذ محروم من المواطَنة وأيّ حقوق تترتّب عليها، في إطار حالة طوارئ ممتدّة من عام 2013 حتى عام 2021، تسوّغ للدولة استباحة حياة الناس كيفما تشاء، في سبيل حفظ أمنها واستقرارها لا أمن المجتمع أو استقراره.
2- إعادة التوزيع الديموغرافي للسكّان: يتّضح هذا الهدف بالتحديد في المشاريع العمرانية التي يعمل عليها السيسي منذ تولّيه الحُكم، حيث اشتغلت الدولة على تفكيك الكتلة المُعرَّضة للانفجار في وجهها في أيّ وقت (والمتركّزة في المناطق العشوائية حول قلْب العاصمة القديمة)، بل وعزلها من خلال نقلها إلى المدن السكنية الجديدة، في أزمنة وأمكنة قد لا تستطيع التعايش معها. كما عملت على تفكيك الروابط التي تشكّلت بين هؤلاء الناس منذ عشرات السنين، وهي العلاقات التي سيفقدونها تماماً في المدن الجديدة، التي، وعلى العكس من العشوائيات، تنتظم فيها المباني في شكل صفوف متقابِلة، بما يسهّل تطويقها والسيطرة عليها في وقت قصير وبسرعة كبيرة. ويُضاف إلى هذا، بناء الجسور والكباري والمحاور الجديدة، بصورة غيّرت العمران بالكامل. والملاحَظ، هنا، أن المخطّط العام لبناء كوبري جديد، يحمل الأهمية ذاتها التي يحملها خطّ الحدود؛ فبإمكانه الضمّ والإقصاء، التوحيد أو التقسيم، وخلْق الشعور بالانتماء أو الشعور بالغربة. كما يرتبط بهذه العملية أيضاً، فرضُ أعباء مالية جديدة، تُعيد توسيع الهوّة بين الفقراء والأثرياء، من حيث القدرة على تحمّل الأعباء المالية الناتجة من استخدام المحاور أو الكباري (سواء في الرسوم والبطاقات، أو في غرامات المخالفات). كما أن المستفيد الأوّل من البنى التحتية الحديثة، هو السلطة بالأساس، كونها تسهّل لها إحكام قبضتها على المناطق السكنية، التي مثّلت منذ 11سنة على الأقلّ، منابعَ للتدفّقات البشرية التي شاركت في الانتفاضة، وتُيسّر على القوات الأمنية عمليات الانتشار وغلْق المداخل والمخارج للمناطق الحيوية والميادين والمؤسّسات الهامة، فضلاً عن أنها تمثّل مصدر دخل جديداً بما تفرضه من رسوم ومخالفات.
الأثر الأكبر لقرارات الدولة وتَوجّهاتها الاقتصادية، هو زيادة تركيز الثروة في يد نُخبة صغيرة محدّدة
أخيراً، في هذا الموضع، يأتي المشروع الأكبر للدولة المصرية، وهو العاصمة الإدارية الجديدة، التي تقع في الصحراء شرق القاهرة، وتضمّ قصوراً رئاسية ومبانيَ حكومية ومركزاً للأعمال، ويُتوقّع أن تبلغ قدرتها الاستيعابية السكانية ستّة ملايين نسمة. وتمثّل هذه العاصمة محاولة لنقل مركز السلطة السياسية والاقتصادية بعيداً عن القاهرة ونزعتها الثورية؛ فالانتقال إليها ليس متاحاً للأكثرية من المصريين، ولذا ستكون حكراً على النُّخب المصرية الغنية، أو على الأشخاص الأقلّ ميلاً إلى خوض ثورات عنيفة، والذين يُشكّلون حالياً السواد الأعظم للدعم المدني للنظام الحاكم. وبمعنى آخر، يَفصل النظام نفسه جغرافياً عن القاهرة وشوارعها الضيّقة، حيث يواجه صعوبة أكبر في ضبط الأمن، وحيث يمكن لجماهير الفقراء في المدن الإخلال بالعمليات الحكومية عن طريق الإضرابات، أو احتلال المساحات المدينية، أو المواجهة العنيفة مع القوى الأمنية.
3- نهضة اقتصادية مفقرة: يمكن إجمال التحوّلات الاقتصادية التي قادتْها الدولة منذ عام 2013، في أربع نقاط. أولاً: سيطرة المؤسّسة العسكرية على حصّة الأسد من الاقتصاد المصري، واضطلاعها بأغلب المشروعات التي تقوم بها الدولة. ثانياً: اشتغال السلطات، منذ عام 2014، على استبدال الدعم النقدي بالدعم السلعي من ناحية، ومن ناحية أخرى، خفْض تكلفة إجمالي الدعم الموجَّه للغذاء – الذي يتضمّن الخبز والدعم التمويني معاً – في الموازنة العامة؛ والسبب هو أن الدعم السلعي بالنسبة إلى الحكومة يعني أنها مضطرّة لتوفير سلع معيّنة أياً كانت تكلفتها، خاصة أن الكثير منها مستورَد من الخارج، في حين يسمح الدعم النقدي للحكومة بتوقَّع سيْر الإنفاق في موازنتها والسيطرة على إنفاقها لعدّة سنوات قادمة، وهذا هو الهدف الأساسي من تحوّلها إليه. ثالثاً: اعتماد «فرْض الرسوم والضرائب» كاستراتيجية أساسية لتنمية مواردها وزيادة دخلها؛ فوفقاً للموازنة العامة 2023/2022، تستهدف الدولة تحصيل 1.168 تريليون جنيه من الضرائب رابعاً: الديون، حيث اعتمد السيسي على الاستدانة كمصدر لتمويل «نهضته الاقتصادية». وبحسب آخر تقارير البنك المركزي، بلغ إجمالي حجم الدين الخارجي المصري 137.9 مليار دولار بنهاية حزيران 2021 (بزيادة قدرها 14.4 مليار دولار عن نهاية حزيران 2020)، وهي قيمة لا تمثّل كلّ أشكال الديون الخارجية، لأن الأرقام الرسمية المصرية تستبعد بعض الأشكال من حساباتها، مثل السندات المحلّية التي يشتريها الأجانب. وقد تنوّعت أشكال تلك الديون؛ فبعضها جاء في صورة قروض من مؤسّسات إقراض دولية أهمّها «صندوق النقد الدولي»، فحصلت مصر على قرضَين من الصندوق خلال الأعوام الستّة الماضية، كان الأوّل في عام 2016 بقيمة 12 مليار دولار، والثاني كان في عام 2020 بقيمة 5.2 مليارات دولار، كما اتّفقت على الثالث في عام 2022، وقامت على إثر الاتفاق بتعويم الجنيه للمرّة الثانية ليصل سعر الدولار حتى لحظة كتابة المقال إلى 24.47 جنيهاً، بالإضافة إلى القروض من الدول الصديقة كدول الخليج، ومؤسّسات التمويل والبنوك الأوروبية. وتَكشف ميزانية عام 2022 أن بند سداد أقساط الديون وفوائدها، يشغل النصيب الأكبر من الإنفاق الحكومي؛ إذ بلغت تكلفة سداد فوائد الديون فقط 690.1 مليار جنيه، أي 33.3% من إجمالي المصروفات، بزيادة قدرها 19% عن العام السابق. أمّا مخصّصات سداد القروض نفسها (أصل الديون)، فقد ارتفعت بنسبة قياسية تتجاوز 62% مقارنة بالعام السابق لتصل إلى 965.5 مليار جنيه.
ماذا بعد؟
تُنبئ عملية الهندسة الاجتماعية، بأبعادها المذكورة كافة، بحالة من التحوّل الكامل للمجتمع المصري، وانسداد الأفقَين السياسي والاقتصادي. فبالنسبة إلى عملية إعادة التوزيع والتموضع الجغرافي، فهي تعكس إعادة هندسة التركيبة الاجتماعية للمناطق الفقيرة تحت ذريعة تطوير الأحياء العشوائية وتحسين المساكن غير الآمنة، كما تعكس محاولة عزل نخبة معيّنة صغيرة وضيّقة في فضاء مديني جديد (العاصمة الإدارية) لتأمينها ضدّ أيّ مخاطر ممكنة في المستقبل.
وأمّا الوضع السياسي، فلا تشي المؤشّرات الحالية بأيّ إمكانات لتحسّنه أو انفتاحه؛ فمقولة موت السياسة هي مقولة مُحقَّقة تماماً. وما حدث أخيراً من إفراجات عن بعض المعتقَلين السياسيين تحت إطار ما سُمّي «المصالحة الوطنية»، لا يعدو أن يكون غشّاً سياسياً رخيصاً؛ إذ إن الفترة ذاتها شهدت اعتقالات لأعداد أكبر بكثير من المفرَج عنهم. هذا فضلاً عن أن مسألة الإفراج عن المعتقَلين، لا تعني أيّ عودة لحياة سياسية في أيّ حال من الأحوال. وأخيراً، فإنه في ظلّ الوضع الاقتصادي الحالي، حيث تتوجّه الدولة إلى مزيد من الاستدانة خارجياً وداخلياً، فإن أيّ أزمة اقتصادية عالمية قد تؤثّر بشكل كارثي على الاقتصاد المصري وقدرة مصر على الالتزام بسداد ديونها، كما أن الاستمرار في ذلك المسار لا ينبئ بأيّ تحسّن على المديَين المتوسّط أو الطويل.