مروان عبد العال
تختتم الدورة الرابعة والثلاثون للمؤتمر القومي العربي أعمالها في بيروت، المدينة التي لا تزال تحمل حلم العروبة تحت ركام الانقسامات، بانتخاب الدكتور ماهر الطاهر، المناضل الفلسطيني القومي اليساري، أحد رموز الحركة الوطنية العربية الحديثة، أميناً عاماً خلفاً للأستاذ حمدين صباحي، القومي الناصري، ممثّلاً جيل الوفاء لفكر جمال عبد الناصر في العدالة والوحدة والحرية، وجسراً بين ذاكرة الحركة القومية وأسئلتها المتجددة في الواقع العربي الراهن.
يمثّل هذا الانتقال أكثر من مجرد استحقاق تنظيمي؛ فهو إشارة رمزية إلى مركزية فلسطين في المشروع القومي العربي، ليس فقط كقضية وطنية، بل كبوصلة للنهضة العربية الثالثة التي تتشكل ملامحها في رحم الإبادة، حيث يتجدد سؤال النهضة في سياق اختبار تاريخي غير مسبوق للأمة وللضمير الإنساني العالمي على السواء.
تأتي هذه الدورة في لحظة حرجة، يتقاطع فيها الانهيار السياسي العربي مع تحولات عميقة في الوعي العالمي بعد الإبادة في غزة، التي لم تكن مجرد حرب مروعة، بل مرآة للأزمة الأخلاقية والسياسية العالمية والداخلية على حد سواء. غزة، بقدر ما كشفت هشاشة النظام الدولي، عرّت أيضاً عجز المؤسسات والنُظم والجامعة العربية عن الفعل التاريخي. صار سؤال النهضة ضرورة وجودية: الأمة التي لا تمتلك مشروعاً معرفياً وسياسياً تحررياً تصبح هامشاً في منظومة الهيمنة الجديدة.
حين كانت غزة تحترق والعالم ينكشف حضارياً وأخلاقياً وإنسانياً، لم تكن المأساة في الحدث العسكري فقط، بل في العجز الدولي وفي تواطؤ الخطاب الإنساني الحديث مع وحشية القوة. هناك، في الركام، اختُبر ميزان القيم ذاته: معنى الإنسان، والعدالة، والحرية، والكرامة. أعادت غزة إلى الفكر العربي أسئلته الكبرى: من نحن؟ ولماذا وصلنا إلى ما نحن عليه؟ وهل ما تزال في هذه الأمة مناعة للنهضة بعد هذا الركام؟
ما جرى أعاد فتح الجرح المؤجل منذ هزيمة حزيران 1967، التي مثلت نقطة تحول من الحلم القومي إلى واقع التجزئة والخيبة. منذ تلك الهزيمة، دخل العالم العربي مرحلة «ما بعد الهزيمة»، حيث انكفأ المشروع القومي إلى إدارة الأزمة بدل تجاوزها، وتحول الخطاب التحرري إلى خطاب تبريري يحرس التراجع ويبرره باسم الواقعية أو الاستقرار.
النهضة الأولى انطلقت مع رواد الإصلاح مثل جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده والطهطاوي، ساعية إلى ربط الدين بالعقل، وتفسير التخلّف كنتيجة الجمود الديني والاستبداد السياسي. كان السؤال المركزي: لماذا تقدّم الغرب وتخلفنا نحن؟ مع ذلك، ظل هذا السؤال أسير المقاربات الأخلاقية التي فصلت الفكر عن سياقه الاجتماعي والتاريخي. فالنهضة ليست مجرد فكرة، بل سيرورة اجتماعية تعبّر عن دينامية طبقة أو نخبة تمتلك مشروعاً للتاريخ، كما في أوروبا مع صعود البورجوازية الحديثة. في العالم العربي، تعثّر المشروع لأن الطبقة الوسطى، المفترض أن تحمل التنوير، تمّت مصادرتها وتحويلها إلى طبقة ريعية مستهلكة، خاضعة للسلطة ومجردة من الفاعلية.
النهضة الثانية القومية التحررية بلغت ذروتها مع ثورة يوليو في مصر وحركات التحرّر في المشرق والمغرب، بقيادة مفكرين ومناضلين أمثال جمال عبد الناصر وميشيل عفلق وجورج حبش وفرانز فانون. هذه النهضة وضعت المشروع القومي على طريق التحرّر الوطني والعدالة الاجتماعية، ولكنها تعثّرت بفعل تفكّك الحركات الوطنية واستبدالها بدول ما بعد الاستقلال. الدولة العربية تحوّلت إلى بنية مغلقة تدير الأزمات بدل مواجهتها، والمثقف إلى شاهد على الانكسار أو مروّج لعولمة الاستسلام. تكرّست الدولة الحديثة كجهاز ضبط سياسي واقتصادي وثقافي يعيد إنتاج التبعية ويمنع تشكّل فاعل تاريخي قادر على التغيير.
حين عجزت الأنظمة عن الفعل، ولدت من تحت الركام حركة وعي ومقاومة تقول إن النهضة لا تُستورد، بل تُصنع في الميدان، حيث يتجدد المعنى من رحم الفاجعة
مع انكفاء الدولة عن وظيفتها التاريخية، بدت الأمة بلا مشروع جامع، بينما المشروع الصهيو–إمبريالي يوسّع حضوره عبر تفكيك مقومات الدولة الوطنية، تمهيداً لتكريس مشروع «الشرق الأوسط الجديد» أو «السلام الإبراهيمي»، الهادف إلى إعادة هندسة المنطقة سياسياً وثقافياً واقتصادياً بما يمهّد لإقامة الدولة الصهيونية العظمى.
غياب الفاعل الاجتماعي التاريخي — الطبقة الوسطى الوطنية والقوى التقدّمية المنظمة — جعل النهضة خطاباً معزولاً في المؤتمرات دون حاضنة مجتمعية قادرة على تحويله إلى فعل تغييري. هنا تكمن أهمية المؤتمر القومي العربي، لا بوصفه منبراً للنخب فقط، بل كإطار جامع يجسر الهوّة بين الفكر والممارسة، ويعيد قراءة أزمة المشروع القومي في ضوء التحولات العالمية، لبلورة مشروع نهضوي يعيد وصل ما انقطع بين الأمة ودولتها، بين الوعي والإرادة، وبين الفكرة والتاريخ.
النهضة الثالثة تختلف عن سابقتيها: لا تستعير خطاب الإصلاح الليبرالي ولا تكرّر مشروع الدولة القومية، بل تتجاوزهما عبر وعي جديد يربط بين الدولة والأمة، والحرية والكرامة، المقاومة والتنمية، والتحرّر الوطني والتحرّر الإنساني. إنها نهضة تنبع من إرادة الشعوب، من تجربة الحرب العدوانية العالمية على شعوبنا التي أثبتت أن المقاومة ليست خياراً عسكرياً فحسب، بل خيار حضاري لحماية معنى الوجود العربي.
تتقدّم مهمة مراجعة الفكر القومي العربي كنقد مزدوج للدولة والوعي: الدولة تعيق التحوّل الديموقراطي والتنموي لأنها تقوم على منطق السيطرة، والوعي العربي استبطن الهزيمة حتى بات يراها قدراً لا خياراً. لذلك، لا نهضة بلا مراجعة جدّية تبدأ بنقد الذات، ولا فكر بلا مساءلة بنية السلطة ومنظومة الفكر السائد التي أعادت إنتاج العجز.
محمد عابد الجابري دعا إلى «عصر تدوين جديد» للعقل العربي، أي قطيعة مع طرائق التفكير التي كرّست التبعية. اختبار غزة يعيد للعقل العربي إمكانية البدء من جديد: حين فشل العالم في إنقاذ غزة، أنقذت غزة معنى العالم. وحين عجزت الأنظمة عن الفعل، ولدت من تحت الركام حركة وعي ومقاومة تقول إن النهضة لا تُستورد، بل تُصنع في الميدان، حيث يتجدد المعنى من رحم الفاجعة.
المشروع الغربي الاستعماري يحاول إعادة فرض الوصاية على الوعي العربي بوسائل جديدة: احتلال بلا جيوش، تبعية باسم الواقعية، وتفكيك للذاكرة باسم الإعمار والتنمية. غير أن المقاومة الرمزية هدمت هذا البناء داخلياً وأعادت تعريف الممكن، مؤكدة قدرة الإرادة على تجاوز منطق القوة. بهذا تصبح غزة بداية جديدة للتاريخ العربي، ومختبر النهضة الثالثة التي تستعيد فكرة التحرّر بوصفها فعل وعي لا شعاراً سياسياً.
الأمة العربية اليوم أمام تحدٍ مصيري: إما البقاء أسيرة بنى العجز التي تنتج الهزيمة، أو إعادة بناء مشروع على قاعدة الحرية والكرامة والوحدة والمقاومة. التاريخ لا ينتظر المترددين، والنهضة ليست وعداً في النصوص، بل امتحان في الميدان. وفلسطين اليوم تعيد تعريف النهضة، ليس كمجموعة أهداف تنموية أو قومية، بل كحركة وعي تحرري تربط بين مقاومة الاحتلال ومقاومة التبعية.
اليوم، يقف المؤتمر القومي العربي أمام امتحان النهضة الثالثة، ليكون منبر ولادة وعي عربي جديد، ومختبر الفعل التاريخي، وصانع المستقبل. هذه النهضة ليست مجرد شعار، بل وعي ومقاومة حقيقيان، حيث تتحول الفاجعة إلى إمكان للتحرّر، ويصبح وعي الهزيمة خطوة نحو الانتصار المؤجل. طالما استمر الصراع، سيظل سؤال النهضة مفتوحاً، لا يُغلق إلا بفعل عربي متجدّد، قادر على استعادة مكانة الأمة بين الأمم، وإعادة صياغة مشروعها الحضاري والتاريخي. بمعنى آخر، الوعي الجماعي يصبح أداة استراتيجية لإعادة بناء القوة، مستفيداً من تناقضات العدو وارتباكه، وفق ما يطرحه غرامشي حول الهيمنة الثقافية والأخلاقية. وغوته للربط بين النظرية والممارسة السياسية، موضحاً أن النصر الحقيقي يبدأ من إدارة النضال الثقافي والفكري.
* كاتب فلسطيني
أخبار سوريا الوطن١- الأخبار
syriahomenews أخبار سورية الوطن
