فراس عزيز ديب
بدأت قبل عام تماماً وحملت اسم «الحرب في أوكرانيا»، مع انتهاء فصل الصيف وبدء تراجع القوات الروسية عن بعض المناطق التي استولت عليها شرق أوكرانيا تحولّت التسمية إلى «الحرب الروسية على أوكرانيا»، لينتهي بنا المطاف مع الساعات الأولى لبدء العام الثاني لهذه الحرب إلى التسمية الأدق التي توصّف ما يجري في قلب أوروبا: «الحرب على أوكرانيا».
كان العالم يحبس أنفاسه بانتظار كلمة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في ذكرى انطلاق الحرب، لكن الكلمة واقعياً لم تأت بأي جديد، لم تحمل كما توقع البعض إشارة لبدء هجوم شامل على أوكرانيا لم يسع الروسي أساساً لتحقيقه يوماً، بل من الواضح أن استطراده في شرح أسباب الصراع لا مآلاته، ودخوله حتى في أدقّ التفاصيل كالحرب المبطّنة على الكنيسة الأرثوذكسية وقتل مبدأ العائلة في العالم الغربي عبر زواج الشواذ على أهميته وهو ربما تفصيل يحتاج إلى مقالات منفصلة لشرحه لكنه تجنب لهجة التصعيد، هناك من سيربط هذا الأمر بالمخاوف الروسية أو التراجعات الاقتصادية وتأثير إطالة الحرب على المجتمع الروسي وتراجع سمعة العتاد العسكري الروسي، لكن هذا كلام لا معنى له فإطالة زمن الحرب نتائجها كارثية على الجميع، أما سمعة العتاد العسكري فحتى الأميركي الذي يروج لبروباغندا كهذه لا يبدو مقتنعاً بها لأنه يعلم ما يمتلكه الروس من أسلحة قادرة على تهديد الجميع، حقيقة الأمر بدت بعيدة كل البعد عما يطرح باتجاه واحد وهي يمكن اختصارها بسؤال بسيط: هل ترك بوتين باباً للدبلوماسية؟
للإجابة عن هذا السؤال دعونا نتفق أولاً على أن الحرب اليوم هي روسيّة- أميركيّة على الأرض الأوكرانية، دعكم من تصريحات المسؤولين الأوروبيين عن الحرب ومن بينها كلام الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون المضحك عن (هزيمة روسيا لا سحقها)، دعكم كذلك الأمر من استجداءات الرئيس الأوكراني فلودومير زيلينسكي لمعاملته كما يعامل الغرب إسرائيل لأنهما يتعرضان للهجمة ذاتها، لكن حقيقة الأمر تبدو كل هذه التصريحات لا معنى لوجودها حالما يتخذ الأميركي قراره، من هنا كان لابد من وجود دولة ذات ثقل قادرة على لعب دور التوازن الذي من المفترض أن تلعبه الأمم المتحدة لكنها أثبتت عجزها في الكثير من الملفات، من هنا كان الطرفان بحاجة فعلياً إلى نقلة دبلوماسية تكون قريبة من إيجاد حلول لجميع الملفات المتشابكة انطلاقاً من إنهاء الصراع على أوكرانيا، فكانت المبادرة الصينية.
مبدئياً من الجيد أن نذكّر بأن الصين ليست بدولة مراهقة سياسياً تبحث عن دور، الصين بوزنها الرسمي والشعبي لا يمكن لها أن تطرح مبادرة كهذه لمجرد «تريند» سياسي، المنطق يقول إنّ مبادرة كهذه لا يمكن أن تشهد الولادة لولا الرسائل الإيجابية من جميع الأطراف، هناك من سيسأل وكيف ذلك؟ مع وجود إصرار روسي مثلاً عبّرت عنه وزارة الخارجية الروسية بالقول: «إن السلام في أوكرانيا يقتضي الإقرار بالحقائق على الأرض»، ربما قد يفهم من هذا الكلام بأن الروس سيتمسكون بالمناطق التي ضموها، لكن حقيقة الأمر قد تبدو باتجاه آخر وبلغة الدبلوماسية قد يكون تعبير «الحقائق على الأرض» هنا بعيداً عن فكرة ضم واحتلال، نتحدث عن حقائق من نوع آخر تتعلق بتوسيع الناتو ونشر بطاريات صواريخ بعيدة المدى بمعزل عن الذي يسيطر على الأرض.
بالسياق ذاته يبدو الحديث الغربي عن مفهوم «حياد الصين» لكونها داعماً للروس هو نوع من «الشو الإعلامي» لا أكثر، رئيسة المفوضية الأوروبية أرسولا فون دير لاين قالت إن المبادرة تحمل نقاطاً مهمة لكن يجب علينا التأكد من أن الصين لا تعمل لمصلحة روسيا، قراءة هذا التصريح وحده كافية لتجعلنا نفهم إلى أي درك انحدرت السياسة الأوروبية، تصريح قد لا يخرج عن مبتدئ في السياسة، هل أرادت هذه السيدة أن تقنعنا بأن «الصين عميلة سرية للروس»؟! ثم كيف ستعمل الصين لمصلحة روسيا إذا كانت البنود واضحة وصريحة؟ أما الأميركيون فهم بواقعيتهم التي يحسدون عليها وإن أغلقوا باباً عبر الحديث عن العلاقة المميزة بين الصين وروسيا من بينها كلام نائبة الرئيس «كامالا هاريس» عن القلق الأميركي من تعميق الصين علاقاتها مع موسكو منذ بدء الحرب لكنهم فتحوا أبواباً مقابلها، فوزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن عبّر عن الأمر بالقول «يجب أن يتم الضغط لإنهاء الحرب وفرض السلام»، معتبراً أن الرئيس فلاديمير بوتين وحده من يملك خيار إنهاء الحرب، وهو يدرك أنّ الدولة الوحيدة في العالم القادرة على الوساطة في هذا الشأن هي الصين.
على جهة أخرى، ما يجري تداوله في الإعلام بأن المبادرة الصينية هي لإنهاء الحرب وإحلال السلام بين روسيا وأوكرانيا، لكن القراءة المتأنية لبنود المبادرة قد تأخذنا إلى ما هو أبعد من ذلك بكثير، قد تكون مبادرة فعلياً لإعادة تحديث النظام العالمي عبر القانون الدولي على مبدأ «لا رابح ولا خاسر» على جميع ساحات الحرب المفتوحة، هنا يكفينا أن نقرأ البند الأول المتعلق بما سماه البيان (احترام سيادة الدول) ليتضح ما نعنيه، حيث طلب البيان احترام سيادة الدول واستقلال أراضيها وفق القانون الدولي بمعزل عن كونها دولة صغيرة أو كبيرة، قوية أو ضعيفة، غنية أو فقيرة، هذه الفقرة كافية لتجعل هذه المبادرة ذات أبعاد سامية لا علاقة لها بصراع محدد، بل بالكثير من الصراعات عبر العالم التي تم فيها انتهاك سيادة الدول بأكاذيب شتى، ماذا عن الاحتلال الأميركي لحقول النفط على الأراضي السورية؟ ماذا عن الوجود غير الشرعي لقوات من دول ناتو على الأراضي السورية؟ هل تضع هذه المبادرة الجميع أمام مسؤولياتهم؟ بل لو أردنا الاستطراد أكثر لتساءلنا: هل من رابط بين التعاطي الأميركي مع المبادرة الصينية وتقديم عضو الكونغرس الأميركي «مات جويتز» مشروع قرار إلى مجلس النواب الأميركي يلزم الرئيس بايدن، حال إقراره، بسحب جميع القوات الأميركية من سورية؟ ربما تبدو هذه التقاطعات طريقة لإنزال الجميع عن شجرة المواجهة، تحديداً أن الرئيس جو بايدن لا يبدو اليوم بحالة صحية تجعله قادراً على فهم مايجري من حوله وهو ما عبر عنه حرفياً «مات جويتز» معتبراً أن بقاء القوات هناك بحاجة إلى شرح أهمها ما آليات الانتصار هناك؟!
في الخلاصة، ليس هناك أحد جاهز لحرب شاملة مهما علت التصريحات، بعكس ذلك فقرار الحرب ليس كما يظنه البعض كشجار على أفضلية مرور، لا أحد يمتلك القدرة على الحسم النهائي بمن فيهم الروس، أما حرب الاستنزاف فقد جربها الأوروبيون خلال عام كامل ونتيجتها يستطيع أيّ مواطن أوروبي أن يعرفها عندما يدخل أحد المراكز التجارية للتسوق ليكتشف الانهيار في ضعف القدرة الشرائية، وهو ما لم يحدث على الجانب الروسي، أما التضحية بآخر أوكراني في سبيل حصول الناتو على موطئ قدم فهي غير منطقية أولاً نتيجة لبدء حالات التململ من موجات اللجوء الأوكرانية باتجاه أوروبا في ظل الأزمة الاقتصادية الحالية، ثانياً الخوف من الداخل الأوكراني وانفجاره بوجه زيلينسكي، هذه المبادرة ستشكل المنعطف الأهم نحو إعادة الاستقرار للعالم الملتهب بحيث يستطيع الجميع تقديم تنازلات منطقية يكون فيها الجميع غير مهزوم، بل نكاد نجزم بأنّ المبادرة تعدت مرحلة الموافقة عليها، أي إنها دخلت في مرحلة الرتوش الأخيرة للتطبيق فكيف ستكون الحلقة الأخيرة؟ الجواب كما قال وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن:
وحده فلاديمير بوتين من يملك القدرة على إنهاء الحرب.
سيرياهوم نيوز1-الوطن