عبد الباري عطوان
مجزرة صلاة فجر غزة التي راحَ ضحيّتها أكثر من 120 شهيدًا ليست الأُولى ولكنّها يجب أن تكون الأخيرة، ولكن للأسف ونقولها وفي الفمِ مرارة، ستكون هُناك مجازر أُخرى في الطّريق، وربّما أكثر دمويّة، طالما أنّ العرب، كِبارهم وصِغارهم، يكتفون بالإدانة، والمُجتمع الدولي يكتفي بالتّعبير عن رُعبه، أمّا بنيامين نتنياهو فيَفْرُك يديه فَرَحًا واطمئنانًا لأنّه لا يُوجد هُناك من يضعه عند حدّه، ويرد عليه بالطّريقة التي يفهمها ويستحقّها، وينطبق عليه القول “خلا لك الجو فبيضي واصفري”.
استراتيجيّة نتنياهو واضحة وتتلخّص في المُضيّ قُدُمًا وبوتيرةٍ أسرع في حربِ الإبادة، وفرض إملاءاته على أهل القطاع، فليس أمامكم إلّا الموت جُوعًا، أو قصفًا بالصّواريخ، أو الهجرة وترك الأرض، وكُل ما تحتها وفوقها لنا: الغاز، والنفط، الشّواطئ الجميلة، الموقع الاستراتيجي، فنحنُ أهلُ الأرض وأنتم أغراب، ومُعظم العرب معنا، وأنتم لكُم الله.
مِن المُؤسف أنْ يخرج علينا فطاحلة التّحليل ليقولوا لنا إنّ نتنياهو أقدم على هذه المجزرة من أجلِ توجيهِ ضربةٍ استباقيّة لنسفِ الجولة القادمة لمُفاوضات الهدنة في القاهرة أو الدوحة بعد خمسة أيّام التي ترعاها الولايات المتحدة، وكأنّ الجولات العشرين السّابقة التي انعقدت على مدى الأشهر العشرة الماضية كانت تحظى باحتِرامِه، وتُحقّق نتائج ورديّة.
***
نعم.. نتنياهو يُريد الاستمرار في الحرب ولن يقبل مُطلقًا بوقفها، إلّا في حالةٍ واحدة، وهي إجباره على ذلك، بقصف تل أبيب وحيفا، وعكا، ونهاريا، وصفد، وديمونا بالصّواريخ الدّقيقة، ومِئات المُسيّرات الانتحاريّة، وطالما لم يَحدُث ذلك، ولم يَجِد من يردعه، فإنّ المجازر ستتوالد، وتتكرّر بأشكالٍ مُتعدّدة، والاختِلافات ستكون في اسم المكان، فالمُقاومة وكتائبها باقية وفاعلة، وستُواصل انتِصاراتها، والتّاريخ لن يعود إلى الوراء.
نتنياهو يغتال الشّهيد إسماعيل هنية في قلبِ طهران، والشّهيد السيد فؤاد شكر في وسط الضاحية الجنوبيّة، ويحرق ميناء الحديدة، ونحنُ ما زلنا ننتظر الرّد، ونأمَل أن لا يطول، ولهذا تزداد شعبيّته، وتتوقّف المُظاهرات التي تُطالب برحيله، وتُؤكّد مُعظم استِطلاعات الرّأي أنّ الغالبيّة مِن المُستوطنين تعتبره القائد الأفضل لحُكم دولة الاحتلال، لأنّه يعرف كيف يتعاطى مع العرب والمُسلمين، وباللّغة التي يُجيدها، ويفهمونها، أي المزيد من القتل والإهانات.
يتّهموننا نحنُ أبناء قطاع غزة وأمثالنا بالتهوّر والجُنون، والجهل بنظريّة الاستِسلام التاريخيّة، التي اسمها ضبْط النّفس، والصّبر الاستراتيجي، والرّد في الزّمان والمكان المُناسبين، أي بعد مئة عام على الأقل وربّما أكثر، وينسون أنّ هذا “الجُنون” الذي تجلّى في أبلغِ صُوره في “طُوفان الأقصى” الذي يسير على نهج فُتوحات أجدادنا المُسلمين الأوائل، هو الذي جعل نتنياهو يعقد اجتماع مجلس وزرائه في حُفرةٍ تحت الأرض، ويفرض على مُعظم شركات الطّيران العالميّة إلغاء رحَلاتها إلى مطار اللد (بن غوريون)، وأكثر من مِليون مُستوطن يهربون من فِلسطين المُحتلّة إلى ملاذاتٍ آمنة في الغرب، ونِصفُ هذا الرّقم “نازحون” يعيشون إمّا في الفنادق أو الخِيام، والأهم من ذلك تحطيم أُسطورة وهيبة الجيش الذي لا يُهزم، وتمزيق كُلّ الأقنعة عن الوجه الصّهيوني الدّموي البَشِع، وفضح حقيقته اللّاساميّة العُدوانيّة أمام العالم أجمَع، وإحياء أُسطورة شايلوك الشّكسبيريّة وإثبات واقعيّتها، ودقّتها على مسرح قطاع غزة الحي ومُخيّماته.
هذا الغرب المُنافق الذي تتزعّمه أمريكا زعيمة العالم الحُر، يُكافئ نتنياهو بِما يَقرُب من الأربعة مِليارات دولار، تشجيعًا له على المُضيّ قُدُمًا في حرب الإبادة والاغتيالات، والتوسّع في المجازر ورفع أعداد ضحاياها بأكبرِ قدرٍ مُمكن، وخاصَّةً نسبة الأطفال بينهم، ويُرسل زعماؤه المبعوثين إلى إيران، ولبنان، واليمن، طالبين من قادتها التخلّي عن ثقافة الرّد الثّأري الانتِقامي، والتحلّي بأكبرِ قدرٍ مُمكن من ضبْطِ النّفس والتّهدئة.
نتمنّى على كتائب المُقاومة بزعامة “المجنون” الغزّاوي الأشهر المُجاهد يحيى السنوار بأنْ يُعلن عدم التّعاطي مع مِصيَدة التّكاذب الأمريكيّة الغربيّة، وقطع كُل الاتّصالات مع وسُطائها العرب المُتواطئين، فهذا هو الرّد الأقوى على هذه “المهزلة” المُستمرّة مُنذ عشرة أشهر تحت العلم الأمريكي، ولإخفاء الشّراكة الأمريكيّة المُباشرة في سفكِ دماءِ أبناء القطاع، وتجويعهم حتّى الموت.
***
ختامًا نقول للذين يخافون من توسّع الحرب، ومِن التّهديدات الأمريكيّة المُتمثّلة في تحريك حامِلات الطّائرات، نقول لهم عودوا إلى الوراء قليلًا وبالتّحديد إلى أفغانستان التي هزمت أمريكا وأجبرتها على الهُروب بطريقةٍ مُذلّة عبر مطار كابول، أو إلى الصومال الأبيّ، وكيف أجبر مُجاهديه القوّات الأمريكيّة على أرضه بالرّحيل بعد إسقاط إحدى طائراتهم، ولا ننْس العِراق و”فالوجته” ورجال مُقاومته الذين جعلوا من خسائر الاحتلال الأمريكي هي الأضخم في التّاريخ البشري (6 تريليون دولار)، وأجبروا 130 ألفًا من القوّات على الهُروب، ولا ننْس فيتنام، وكوبا، وقريبًا سورية بإذنِ الله.
عندما نُطبّق المُعادلة المُرعبة لنتنياهو وجِنرالاته التي تقول إنّ “النبطيّة” مُقابل تل أبيب، وحيفا مُقابل الحديدة، والتّهديد بتحويل المُدُن “الإسرائيليّة” إلى غزة ثانية وليس بيروت فقط، فإنّ الاحتفالات بالنّصر الأعظم وباقتلاعِ هذا الكيان تُصبح أمْرًا واقعيًّا وقريبًا.
عُمر غزة أكثر من 8 آلاف عام بينما عُمر “إسرائيل” لن يزيد عن 80 عامًا في أفضلِ الأحوال، ولذلك ستنتصر الأُولى وستُهزم الثّانية، وتنضم إلى قائمة مِئات الغُزاة، وقولوا عنّا ما شئتم، والأيّام بيننا.
سيرياهوم نيوز 2_راي اليوم