آخر الأخبار
الرئيسية » ثقافة وفن » المجالس والأمالي والتذكرات من تصنيف العلماء الكبار … غابت مجالس العلم مع غياب العلماء الحافظين لتراث الأمة وأدبها!

المجالس والأمالي والتذكرات من تصنيف العلماء الكبار … غابت مجالس العلم مع غياب العلماء الحافظين لتراث الأمة وأدبها!

إسماعيل مروة

 

يتميز تراثنا بأنواع من التصانيف لم تعرف في الآداب الأخرى، وقد تميزت هذه التصانيف بأن مَن تصدى لها وللتأليف فيها هم العلماء الكبار، والأساتذة ومشايخ العلم، وإن كان بإمكان المتأدب أن يقول الشعر أو الخطب، أو أن يصنف كتاباً، فإن هذه التصانيف التي أتحدث عنها لا يقدر عليها إلا عالم متمكن، ملأ رأسه علماً، ودرّب عقله على المحاكمة، وليس كل أديب يمكن أن يتصدى للمجالس العلمية أو للأمالي أو للتذكرة، أو حتى للاختيارات، لذلك نجد في تاريخنا القديم والحديث أن من تصدى لهذه التصانيف هم العلماء من ثعلب إلى الزجاج إلى ابن الشجري والقالي إلى الحمدوني والأبشيهي إلى أبي تمام والبحتري والبصري، إلى الجواهري وشوشة وأدونيس، فماذا عن هذه التصانيف، وهنا أخصّ المجالس والأمالي والتذكرات، وأترك المختارات لمكان آخر.

 

المجلس والأملية والتذكرة

 

مهما اختلفت التسمية، وعلى الرغم من الفوارق الدقيقة من حيث التصنيف إلا أنها تجتمع في عدد من المزايا التي تفرقها عن التصانيف الأخرى والموسوعية:

 

1- اعتمادها على حدس المؤلف العالم فيما يتناوله.

 

2- اعتمادها أسلوب السهل الممتنع، بحيث يفهمها القارئ الشادي، ويغوص فيها المتعمق.

 

3- تتناول قضايا حياتية وأدبية ولغوية عاشها مؤلفوها العلماء.

 

4- هي أقرب للثقافة العامة، منها إلى الثقافة التخصصية.

 

5- تصبغ بصبغة مؤلفها إلى حد ما، إن كان لغوياً أو أديباً أو راوية.

 

6- تتضافر فيما بينها، إذ قد يرد الخبر الواحد في أكثر من مكان.

 

7- تشكل مصدراً من مصادر التراث والأدب، وقد عرفنا بأن بعض الأبيات وردت مثلاً في الأمالي ولم ترد في سواها.

 

8- حفظت لنا هذه الكتب أساليب التعليم في مجالس العلم عند العرب.

 

9- تقدم هذه الكتب ما يتم طرحه على العلماء من مشكلات وأسئلة، أو ما يراه العالم لازماً للمتلقين، ونعرف ذلك من كل كتاب بمفرده.

 

10- تشكل هذه التصانيف رياضاً متكاملة تحوي كل أصناف العلوم التي يجيدها العالم صاحب الكتاب.

 

11- تتسم بالإيجاز حسب مقتضيات الإملاء والمجالس والحكم.

 

الاختلافات بينها

 

يحاول الباحثون البحث عن فروق بين هذه الأنواع من التصانيف ، وهم محقون في وضع الفروق، لكنهم يبالغون في إيجاد الفروق، والأستاذ المحقق عبد السلام هارون شيخ المحققين يذكر مفرقاً بين المجالس والأمالي في مقدمة تحقيقه لكتاب «مجالس ثعلب».

 

(أرى أن هناك فرقاً دقيقاً بين هذين اللفظين في أصل استعمالهما، وكل منهما مظهر لما كان يدور من تدوين أقول العلماء والمتصدرين للتعليم.. أما الأمالي فكان يمليها الشيخ، فيتلقفها الطلبة بالتقييد، وفي هذا يكون الشيخ قد أعدّ ما يمليه.. أما المجالس فهي تسجيل كامل لما كان يحدث في مجالس العلماء، ففيها يلقي الشيخ من تلقاء نفسه، وفيها كذلك يسأل الشيخ فيجيب، فيدون كل ذلك فيما يسمى مجلساً).

 

وفي أول كتاب (تذكرة الأبشيهي) صاحب المستطرف الذي طبع بتحقيق سميح إبراهيم صالح، وطبع في مجمع اللغة العربية بدمشق يقول الأبشيهي: «فهذه محررة من لون أولي الأبصار، ونصائح ظريفة مستطرفة عند كل ذوي الأبصار، مشتملة على حكم ومصالح، وأشعار ونصائح، وعبر ونتائج، وإلزام ومناهج».

 

وإذا ما تجاوزنا أسلوب الأبشيهي الذي يعود للقرن التاسع الهجري بما يحويه من زخرف، فإننا نجد أن هذه الأنواع من التصانيف متقاربة، ولننظر الفوارق التي وضعها هارون:

 

1- الإملاء يستلزم أن يعده الشيخ، والمجلس يقول فيه العالم ما يشاء، فما شاءه هذا ألم يخضع للتحضير؟

 

2- في المجلس قد يسأل العالم فيجيب، وهل يستطيع العالم الذي يملي أن يتجاهل سؤالاً إن وجهه واحد إليه؟

 

ما دام المجلس والأملية في الإطار التفاعلي مع المتلقين فلا خلاف ولا فرق بينهما، ولكن التذكرة قد تختلف عنهما إن كانت قد صنعت كما فعل الأبشيهي، وأغلب كتب التذكرة هي كتب تخضع لذائقة العالم المؤلف، ويقسمها إلى أبواب:

 

أسلوبها المشترك

 

إن كتب المجالس والأمالي والتذكرة تتبع نهجاً واحداً في إيراد الأخبار، والعناية برجال السند، والعنعنة، ورد الأخبار إلى أصحابها كما في كتب الحديث، والأسباب كثيرة:

 

1- أصحاب هذه الكتب هم من العلماء الذين يتحرون الصحة.

 

2- الغاية التعليمية هي الأساس ولابد من رد الأخبار إلى أصولها.

 

3- مهما كانت طبيعية المجالس والأمالي والتذكرات: فهي تنطلق من عنوان وتتفرع إلى عنوانات.

 

4- كل هذه الأخبار لغوية أو أدبية وتوجيهية تأخذ منهجاً واحداً، إذ تعرض الأمر أو الباب، وتبدأ من شواهد القرآن الكريم، لتثني بالحديث، فأقوال السلف الصالح، وأقوال الحكماء والشعراء.

 

ولا يخرج عن هذا المنهج كتاب، لأن اللاحق يأخذ من السابق، وفي أغلب الحالات يحيل إلى مصادره ومؤلفيها، والمحققون يتتبعون الكتاب المؤلف ومصادر كاتبه، خاصة إن كان متأخراً، ووصل الأمر العلمي بمحقق (تذكرة الأبشيهي) للقول: ليس له سوى الجمع! وهذا قول نقدي علمي، وقد يأتي من يقول: إن لم يكن له سوى الجمع، فلم نقوم بتحقيقه ونشره؟ ولكن قد يكون هذا الكتاب الذي ليس فيه سوى الجمع حاوياً لكتب سابقة وهي مفقودة، وقد لا تكون في متناول القارئ.

 

وأنا هنا يعنيني أن تكون بين أيدي القراء كافة، مع ملاحظة أن سمة هذه الكتب التراثية قد تحجب كثيرين عنها، وقد ينفر آخرون منها لسبب أو لآخر، ولكنها يجب أن تقدم على أنها كشكول يحوي من كل علم بطرف.

 

العرض والاختصاص

 

تفترق هذه الكتب، إن كانت في المجالس أو الأمالي أو التذكرات عن بعضها تبعاً لعدة أشياء أولها الكاتب المصنف واختصاصه، فإن كان من العلماء والرواة كما عند ثعلب، فإن السمة البارزة للتصنيف تكون من اختصاص اللغوي والأدبي، وإن كان مثل القالي في أماليه، فإن الغالب عليه يكون من مجلس الأدب وأماليه، وإن كان من الفقهاء فالغالب السمة الفقهية والدينية، وإن كانت الأمالي صادرة عن عالم يأخذ من كل علم بطرف فالسمة الغالبة الثقافة، إضافة إلى غاية هذا التصنيف، وزمنه، فالزمن المتأخر يجمع حكايات من كل ما سبق فيأتي بكل ما سبق ويضيف عليه، ويكون أكثر تنوعاً، وقراءة هذه الأخبار تظهر خصوصية كل كاتب من الكتاب، فمجالس ثعلب يغلب عليها اللغة والعمق في التفسير، وأغلب ما نعثر عليه يحتاج إلى قارئ متمكن.

 

جاء في مجالس ثعلب ومن الحكم 1/187/ «سمعت أبا عبيد الله يقول: سمعت أمير المؤمنين المنصور يقول لأمير المؤمنين المهدي: يا أبا عبد الله، لا تبرمن أمراً حتى تفكر فيه، فإنه فكرة العاقل مرآة تريه قبيحة وحسنه».

 

وفيه أيضاً «سمعت أبا عبيد الله يقول: سمعت أمير المؤمنين المنصور يقول للمهدي: يا أبا عبد الله، الخليفة لا يصلحه إلا التقوى، والسلطان لا يصلحه إلا الطاعة، والرعية لا يصلحها إلا العدل، وأولى الناس بالعفو أقدرهم على العقوبة، وأنقص الناس عقلاً من ظلم من هو دونه».

 

وقد استقى العالم اللغوي ثعلب من حكايات تدريس العلماء للخلفاء وأبنائهم، ليقدم دروساً تربوية أو لغوية أونقدية أكثر من أي جانب آخر، وفيما اقتبس من المجالس دلالة على القدم وقرب العهد بهؤلاء الخلفاء والرواية عنهم، والإسناد والرواية فيها المعاصرة.

 

المجالس العامة

 

وقد جاءت طائفة من العلماء، ولا تزال إلى زماننا، فأخذت هذه الكتب المتقدمة واستقت منها ومن أخبارها، وأخذت ما يناسب منها، ثم قامت بتبويبها حسب موضوعاتها، بينما لا نجد هذا التبويب الفاضل في الكتب المتقدمة، وسواء أظهر الكاتب مصدره أم لم يظهره، فإنه يستقي ما يناسب من المجالس والحكم في أسلوب الحياة، ويصبح الكتاب أقرب إلى الكشكول الذي يحوي كل شيء من التفسير إلى حكايات العامة، وفي جملتها ذات صبغة تعليمية تناسب الشريحة المستهدفة:

 

«مما جاء في كتب الأدب والنص من تذكرة الأبشيهي: «لما ظفر الحجاج بن يوسف بعمران بن حطان قال: أضربوا عنق ابن الفاجرة، فقال عمران: بئس ما أدبك قومك يا حجاج! كيف أمنت أن أجيبك بمثل ما لقيتني به؟ أبعد الموت منزلة أصانعك عليها؟ فأطرق الحجاج واستحيا وقال: خلوا عنه، فقال له أصحابه: والله ما أطلقك إلا الله، فارجع معنا إلى قتاله، فقال: غل يداً مطلقها، واسترق رقبة معتقها«.

 

يروي الأبشيهي عن المتقدمين هذه القصة لإظهار أمور عديدة منها براعة الحديث والجواب المسكت الذي كان من عمران، والعفو عند المقدرة من الحاكم، والحفاظ على العهد من عمران، وابتعاده عن التأثر بما قاله المحيطون به لإغرائه بالعودة لقتال الحاكم، فالأخلاق عنده جعلته يغير من سيرته ولا ينقض عهداً، ولا يخالف ما عابه على الحجاج من أدب قومه.

 

ومن جميل ما جاء في التذكرة «قدم هشام بن عبد الملك المدينة لزيارة قبر الرسول صلى الله عليه وسلم، فدخل عليه أبو حاتم الأعرج، فقال: ما يمنعك يا أبا حازم أن تأتينا، قال: وما أصنع بإتيانك يا أمير المؤمنين؟ إن أدنيتني فتنتني، وإن أقصيتني خزيتني، وليس عندي ما أخاف عليه، ولا عندك ما أرجوك له».

 

وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: من دخل على الملك، خرج وهو ساخط على الله عز وجل».

 

وفي هذين الخبرين عن عمر بن الخطاب وهشام بن عبد الملك مع أبي حاتم الأعرج يقدم لنا المؤلف قطعه عن علاقة الحاكم المحكوم، وإن كان واحدهما يعرف الآخر كما هشام، لكن أبا حاتم الأعرج يعلمنا بأمور مهمة تتعلق بالعلاقة بالحاكم، والقرب منه، وهل هناك أبلغ من قوله: إن أدنيتني فتنتني وإن أقصيتني خزيتني؟

 

وقول عمر بن الخطاب ألا ينطبق على كل علاقة تنتهي بما لا يحمد عقباه؟

 

الغاية والنتيجة

 

ليست غاية هذه الوقفة أن نعرض كتباً أو منهجاً وحسب، وإن كان العرض مفيداً لكنه غير ممكن، لكن الغاية هي الوقوف عند كتب التراث وما تحتويه، فليست كتب التراث كما يدّعي جاهلوها مختصة بكل قديم وصعب، وليست مقتصرة على العقيدة والتفسير، مع ضرورة وجودهما، لكن كتب التراث تحمل لنا في طياتها أساليب حياة، وحكايات من كل الطبقات، من الحكام إلى الأدباء والشعراء والجند والمغنين والعامة، وعند كل حكاية يجد واحدنا نفسه ماثلة، وليست كل كتب التراث صعبة القراءة كما يقول كثيرون، بل فيها هذه النوعية من الكتب العامة التي تقدم الفائدة والمتعة بأسهل طريق، ويمكن أن تختصر علينا الكثير من الصعوبة والفهم لما نحياه.. فهل تغيرت الحقائق التي جاءت في تراثنا عن آليات حياتنا وتعاملنا؟

 

سيرياهوم نيوز1-الوطن

x

‎قد يُعجبك أيضاً

وإنّما أولادُنا بيننا.. أكبادُنا تمشي على الأرضِ … في يوم الطفل العالمي.. شعراء تغنوا بالطفولة

  قد تجف أقلام الأدباء وتنضب أبيات الشعراء ولا ينتهي الحديث عن جمال الأطفال وذكريات الطفولة في عمر الإنسان؛ فالطفولة عالم مملوء بالحب والضحك والسعادة، ...