سيبقى المخرج الكبير الراحل علاء الدين كوكش حاضراً عبر أعماله ومن خلال ما قدمه عبر تجربته الفنية الطويلة، ومع اقتراب ذكرى أربعين وفاته، نذكر أنّ أعماله شكلّت اللبنة الأولى لانطلاقة الدراما السورية متشرباً من بيئته الدمشقية الوادعة، وجاء إبداعه متنوعاً في العطاءات سواء أكان في الإخراج، أم التأليف أم الكتابة، وحتى التمثيل، ونذكر أيضاً؛ هو من جيل وُصف بصناعة كل ما هو حقيقي، وبشكلٍ خاص هو من صنّاع الفن الحقيقي.
ولد علاء الدين كوكش طفلاً مقمطاً بعبق الياسمين الدمشقي، وخطا يافعاً في الأزقة والشوارع الدمشقية، ليترعرع شاباً ملهماً من ثنايا أحجار شارع القيمرية بكل ما فيه هذا المكان الوادع الذي ولد فيه عام 1942، وانتقل عبره إلى مختلف أنواع الفنون من الإخراج المسرحي والتلفزيوني وصولاً إلى كتابة القصص القصيرة، وشغفه بالقراءة جاء من تشجيع والده له، وذلك بحثه على قراءة ما في المكتبة التي كان يمتلكها، وكان لها الأثر البالغ في تحديد مساره في الحياة خاصة بعد وفاة والدته المبكر، شارك كوكش في تظاهرات الأحزاب السياسيّة في سورية نهاية الخمسينيات، وبعد الوحدة بين مصر وسورية (1958)، كما خرج مستقبلاً الزعيم جمال عبد الناصر.
وفي مطلع الستينيات دخل إلى كلية الحقوق التي تركها بعد عام لدراسة الفلسفة وعلم النفس، لينتقل إلى عوالم التلفزيون السوري، بدأت حياته الفنية عندما أوفد إلى ألمانيا ليلتحق بدورة في الإخراج التلفزيوني سنة 1966 وليقدم أول أعماله كمخرج مسلسل (من أرشيف أبو رشدي) عام 1967 وبعدها قدم (مذكرات حرامي) سنة 1969، وأخرج عملاً فنياً حقق نجاحاً باهراً عام 1970 وهو مسلسل “حارة القصر” ذو الصبغة البوليسية في الحارة الشامية العتيقة، الذي بدأ بثه رغم عدم استكمال كتابة العمل، الأمر الذي ساعد على خلق إبداع حقيقي، لعدم وجود المونتاج، وشكل حافزاً حقيقياً له ولكل المشاركين فيه لتقديم الأفضل، بعده كان مسلسل “أولاد بلدي” سنة 1972، ثم مسلسل “هذا الرجل في خطر”، وبعدها قدم الراحل رائعته “أسعد الوراق” عام 1975 وكان عبارة عن سبع حلقات وهو مأخوذ من قصة “الله والفقر” للكاتب صدقي إسماعيل، ولتُشكل هذه السباعية معلماً ومنعطفاً هاماً في الدراما السورية، وهو ما شكّل غواية لإعادة إنتاجه منذ أعوام قليلة بثلاثين حلقة، ومن ثمّ ليرفد نجاحه بعمل بدوي ملحمي هو (رأس غليص) 1976 والذي يعد أول مسلسل في الوطن العربي يصوَّر بكامله خارج الاستوديو، وكان ذلك في صحراء دبي. لتتالى الأعمال بعدها من “ساري” إلى” سيرة بني هلال” 1978.
العمل التلفزيوني لم يمنع كوكش من تقديم العديد من الأعمال المسرحية فقدم مسرحية “الفيل يا ملك الزمان” تأليف سعد الله ونوس عام سنة 1969 وأخرج بعد النكسة مسرحية “حفلة سمر من أجل 5 حزيران” وهي من تأليف سعد الله ونوس أيضاً، وحققت أرقاماً قياسية حين عرضت في سورية ولبنان بين عامي 1970 و 1971، واشترك بعدها مع المخرج فيصل الياسري في مسرحية “لا تسامحونا” عام 1972، وأخرج مسرحية “الطريق إلى مأرب” تأليف محمد الشرفي والتي نالت نجاحاً منقطع النظير إبان عرضها في ذكرى تأسيس التلفزيون اليمني في اليمن عام 1976.
ثم لتتالى إبداعاته مع انطلاقة البث التلفزيوني الملون مع عدد من التمثيليات والأعمال منها “وضاح اليمن” عام 1982 وبعده “تجارب عائلية” 1981، “سيف الدحيلان” 1982 ، “بيوت في مكة” 1983، “حصاد السنين” 1985، “الذئاب” 1989 وصولاً إلى “أبو كامل” عام 1990 والذي قدم عبره صورة مختلفة عن البيئة الشامية، وغاص في عوالم الحكاية الشعبية بأسلوب تشويقي.
وبعدها قدم الراحل مسلسل “أمانة في أعناقكم” سنة 1998 ودخل عوالم البيئة الحلبية عبر مسلسل “حي المزار” 1999، مخرجاً في العام نفسه مسلسل “الرجل سين “1999، “حكايا الليل والنهار” 2006 ولاحقاً مسلسل “أهل الراية” الجزء الأول 2008 . ثم مسلسل “رجال العز” 2011 وكان آخر مسلسل قام بإخراجه هو مسلسل “القربان” عام 2014، كما كتب وأخرج ثلاثة أفلام تلفزيونية تحت عنوان” لا، لن ترحل، القلب يحكم أحياناً “عام 1994.
كما كتب الراحل وأخرج ثلاثة أفلام تلفزيونية إضافة لكتابين صدرا له الأول في المسرح بعنوان “مسرحيات ضاحكة”، والثاني مجموعة قصصية بعنوان “إنهم ينتظرون موتك”. واختير كوكش عضواً في لجنة تحكيم “مهرجان القاهرة الدولي للإذاعة والتلفزيون” للعديد من الدورات، ونذكر أيضاً إنه شارك في فيلم سينمائي كممثل في فيلم “المتبقي” للمخرج الإيراني سيف الله داد، وحاز عليه شهادة تقدير من “مهرجان دمشق السينمائي التاسع.
واستطاع كوكش الجمع بين حياته الخاصة وعمله عبر لقائه مع الفنانة الراحلة ملك سكر والتي كانت ملهمته الروحية في الكثير من الأعمال، حيث تفردا في ثنائيات درامية أنتجت العديد من الأعمال التي خلّدت حضورها في الدراما السورية.
وأخيراً نذكر أن الراحل كوكش كان قد تبرع بمكتبته الخاصة إلى المكتبة الوطنية في دمشق عام 2017، والتي جمع فيها عدداً من الكتب يصل إلى حوالي 30 ألف كتاب شملت كل أنواع الثقافات، والتي واظب على جمعها طوال حياته.
وعشقه لسورية ورائحة الشام حكاية لم يمل من ترديدها، حيث بقي يُردد حتى آخر شهقاته في الحياة، وعبر عشرات المقابلات التلفزيونية على مقولته الأثيرة إلى نفسه “ولدت في سورية وسوف أموت في سورية” وكان له ما أراد وآثر البقاء فيها مقيماً في دار السعادة للمسنين رغم كل المغريات الخارجية، ليغيبه الموت في السادس من شهر كانون الأول أواخر العام الفائت2020 بعد مسيرة فنية حافلة خطّ ملامحها بحد السكين.
لروح المخرج السوري الكبير السكينة والرحمة الواسعة والسلام
(سيرياهوم نيوز-تشرين)