على حسابه على موقع «تروث سوشال»، هاجم دونالد ترامب فيلم «المتدرب» (The Apprentice) الذي عُرض للمرة الأولى في «مهرجان كان السينمائي» الأخير، ووصل إلى الصالات العالمية قبل أسابيع. في هذا العمل، يركّز المخرج الإيراني الدنماركي علي عباسي، على صعود ترامب كرجل أعمال في نيويورك تحت إشراف المحامي روي كون. انتقد ترامب الفيلم بشدة، والأشخاص الذين يقفون وراءه، ووصفه بأنّه «مزيف» و«دون المستوى»، متهماً إياه بأنه «عمل رخيص، تشهيري، ومثير للاشمئزاز سياسياً». وقال إنّ توقيت إصداره كان بهدف الإضرار بحركته السياسية، وخصوصاً حركة «اجعلوا أميركا عظيمة مرة أخرى» (MAGA)، قبيل الانتخابات الرئاسية الأميركية. واستهدف ترامب بشكل محدد كاتب الفيلم، الصحافي غابريال شيرمان، متّهماً إياه بتشويه علاقته بزوجته السابقة إيفانا بعد وفاتها. دافع ترامب عن علاقته بإيفانا، ووصفها بأنها «شخص طيب ورائع»، وعبّر عن استيائه من تجاهل شيرمان للحقائق لمصلحة كتابة قصة وصفها ترامب بالمسيئة وغير الدقيقة. واعتبر أنّ فكرة الفيلم جزء من محاولة أوسع لتقويضه سياسياً، وهذا ما يفعله ترامب دائماً عندما يشعر أن وسائل الإعلام أو صناعة الترفيه تسيئان تمثيله أو تشوّهان إرثه. أما عن عنوان الفيلم، فقد طرح ترامب سؤالاً عمّا إذا كان لصنّاع الفيلم الحق في استخدام اسم «المتدرّب» من دون موافقته، ما يعكس شعوره بملكية العلامة التجارية التي كانت مركزاً لصعوده إلى الشهرة قبل مسيرته السياسية. هذا الحديث، جاء قبل الانتخابات الرئاسية الأميركية، الذي فاز فيها ترامب. وربما يكون الشريط واحداً من أقلّ الأفلام ضرراً للرئيس الحالي للولايات المتحدة الأميركية. يمكن اعتبار الجرأة الذي يتمتع بها علي عباسي لسرد السنوات التكوينية لدونالد ترامب، في منتصف المدة الانتخابية، استفزازاً مشابهاً لاستفزاز المخرج أوليفر ستون عندما أصدر فيلم «دبيلو» (2008)، الذي بيّن كل تناقضات أصغر الإخوة بوش بأسلوب راوح بين المهزلة والمبالغة.
بالعودة إلى فيلم عباسي، فقد أظهر الجوانب والخصائص المختلفة لشخصية بطله المتغطرس والمتقلب والمتنكر والمتلاعب والعنصري والمبتذل. سرد عباسي بدايات ترامب في عالم الأعمال والتجارة، واتفاقاته مع مجموعات المافيا في نيويورك، ومسيرته المهنية القاسية والكاذبة، وازدرائه لأي نوع من القيم بخلاف قيمة الربح والمال، وجانبه المسيحاني، وأخلاقه الأنانية، وازدرائه للنساء، وخيانته لأصدقائه، ونبذه أخاه، وجهله بالفنّ، حتى عمليات التجميل التي أجراها للتخلص من الدهون، وزرع الشعر، والأدوية الذي يتناولها بانتظام. كل هذا من دون دحض قصة الرجل العصامي، الذي بدأ من لا شيء تقريباً، وأصبح أحد أهم رجال الأعمال بفضل ذكائه وجشعه وطموحه.
بدأ كل شيء في مطعم أنيق عام 1973، حيث دونالد ترامب (سباستيان ستان)، البالغ 27 عاماً يراقب روي كون (جيريمي سترونغ)، مع بعض أصدقائه من رجال العصابات، وأعضاء النقابات والقضاة، وما إلى ذلك. كون المحامي الذي قاد عائلة روزنبرغ إلى الكرسي الكهربائي، وتواطأ مع جوزيف مكارثي، والمافيا الإيطالية في نيويورك، وكان قريباً من جميع شؤون ريتشارد نيكسون الفاسدة، يستقبل ترامب على طاولته. بالمقارنة مع هؤلاء الأشخاص ذوي الوزن الثقيل، فإن «دوني» (اسم الدلع لترامب)، هو الابن الخجول لرجل أعمال غير ناجح، يعاني من مشكلات قانونية. يطلب ترامب المساعدة من كون، لحلّ عدد من المشكلات القضائية بالابتزاز. ويبدأ ترامب شيئاً فشيئاً بصنع اسم لنفسه في عالم العقارات. وفي منتصف السبعينيات، عندما كانت نيويورك شبه مدمرة وخطيرة، حصل ترامب على عدد من المزايا بفضل كون، فتمكّن من بناء فندق «حياة» في قلب المدينة، ليحلّ محل فندق مدمّر بالقرب من محطة «غراند سنترال». يتعلّم دوني تسلّق السلّم الاجتماعي، وإقناع رؤساء البلديات بعدم دفع الضرائب، ويصبح منتفعاً لا يرحم. علّم كون ترامب كل شيء، من الإيمان بنسبية الحقيقة، وعدم إظهار أي ضعف أمام أحد، وطبعاً عدم الاعتراف بالهزيمة. مع حلول الثمانينيات، ونيوليبرالية رونالد ريغان المتطرفة وصعود فيروس الإيدز الذي أثّر في كون وكثيرين من حوله، تتغير حياة الاثنين: ترامب في صعود ناري، وكون في طريق الانحدار. وبينما يفتتح ترامب برجه العظيم، يتجاهل ويبتعد وينكر كون المريض والوحيد!
«المتدرب»، فيلم ذكي بطبيعته السينمائية وكيفية التعامل مع شخصياته الأساسية الحقيقية. لم تكن فكرة عباسي فضح المحتال العظيم، أو نزع الصفة الإنسانية عنه، إلى حد تحويله إلى كاريكاتور عن نفسه، بل قدم ترامب كما هو، من دون أن يحاول انتقاده، بل على العكس: لقد صوّر كل عيب من عيوب شخصيته على أنها فضائل، كما يراها ترامب تماماً. لذلك، يصعب تصديق وجود مؤيد لترامب يغادر السينما غير سعيد. قد يكوّن بعضهم فكرة أنّ عباسي يضفي الطابع الإنساني على بطليه، وهذا الانتقاد يجب أخذه في الحسبان. نعم، لقد أضاف طابعاً إنسانياً على كون بسبب المرض وأداء جيريمي ستورنغ، القادر على جعل المرء يشعر بالعاطفة مع الرجال الحقيرين. ولكن في الوقت نفسه، يوجد شيء واضح في الفيلم، مفاده أنّ كون ربما أكثر شراً من ترامب في تاريخ الولايات المتحدة، وهشاشته ووحدته في نهاية حياته لا تجعلانه بطلاً. من جهة ثانية، لا يحاول الفيلم أن يبيع لنا ترامب إنسانياً بأي شكل من الأشكال، فبطل هذا العمل الجديد لعباسي لا يقل وحشيةً عن أولئك الذين ظهروا في أفلامه السابقة. ففي فيلم «الحدود» (2018)، أعاد صياغة الخيال وحوّله إلى استعارة آسرة لعفاريت العالم الحديث، كما فعل في فيلم «العنكبوت المقدس» (2022)، حين أخذ الإثارة إلى حد متطرف في شوارع مدينة مشهد في إيران.
صوّر كل عيوب الشخصية على أنها فضائل كما يراها ترامب تماماً
يبدأ فيلم «المتدرّب» في أوائل السبعينيات ويمتد إلى أواخر الثمانينيات، وهي فترة أساسية لفهم شخصية دونالد ترامب اليوم. يبدأ الفيلم بإظهار نسخة منه ستفاجئ كثيرين، لأنه قبل سنّ الثلاثين، كان مجرد رجل أعمال طموح لكن من دون القدرة الحقيقية على النجاح، سواء بسبب شخصيته المتحفّظة أو بسبب افتقاره إلى الموارد. عندما يلتقي بكون، يتغير كل شيء. يقترح شيرمان وعباسي فكرة أنّ ترامب لم يكن أكثر من متدرب لديه انتهى به الأمر إلى الذهاب أبعد من معلمه. وهذا يؤدي إلى أن يكون للفيلم نصفان مختلفان جداً: الأول يظهر تقدم ترامب تحت عباءة كون، والثاني مع ترامب الذي أصبح خارج نطاق السيطرة، وتحول الآن إلى كائن قاسٍ على استعداد لفعل أي شيء لتحقيق مراده. ولهذا السبب، في الساعة الثانية من الفيلم، سيتعرف كثير من الناس على ترامب الذي عرفناه جيداً على مدار السنوات القليلة الماضية، لأنه بمجرد أن يتذوق عسل السلطة، سيفعل كل ما يلزم للاحتفاظ بها، بغض النظر عمن يؤذيه على طول الطريق. ومن الأمثلة الجيدة على ذلك التغيير الهائل في الموقف تجاه زوجته، إذ انتقل من القيام بكل ما يلزم للحصول عليها إلى معاملتها كقطعة أثاث قديمة يجب التخلص منها بلا رحمة. مع ذلك، فإن التركيز الحقيقي للفيلم ليس على علاقة ترامب بزوجته إيفانا (ماريا باكافولا)، بل بين الأول وكون. يُظهر الفيلم كيف يتزامن صعود الأول مع انحدار الثاني. ينعكس هذا الصعود والهبوط على أداء ستان وسترونغ، إذ يتألق كلاهما عندما يتعين عليهما إظهار نفسيهما بشكل أكثر حريةً ووعياً بالقوة التي يمارسانها. لكن عندما يتعلق الأمر بالتأكيد على جانبهما الأكثر هشاشة، يتألق سترونغ بإقناع لا يرقى إليه الشك.
من الواضح أنّ عباسي لديه اهتمام خاص بتمثيل العصر الذي نشأ فيه ترامب، من حيث الشكل والمضمون. حركة الكاميرا واللون، ونسبة أبعاد شاشة التلفزيون، تعيدنا إلى السبعينيات التي تصوَّر بصفتها كابوساً. نشهد كل ما كان خاطئاً في تلك الحقبة على المستوى السياسي والاجتماعي. إنه ليس مجرد نهج جمالي، أو إضاءة معينة أو توصيف للشخصيات، بل محاولة لاستخدام هذه الموارد لإظهار المناخ المظلم الذي تخفيه الثريات واللمعان والذهب، وفساد النظام التجاري والسياسي الذي يبدو بلا حلّ. ولحسن الحظ أنّ الفيلم يحتوي على نص يدرك قوسه السردي والحاجة إلى رمزية أحداث معينة تشرح الموضوع، بدلاً من الاكتفاء بترتيبها ترتيباً زمنياً. إن تضخيم اللحظات الدرامية، يُظهر انبهار عباسي بالسطور المرعبة لهذه القصة. يتحوّل استكشاف صعود ترامب على يد روي كون، إلى تحليل للجوانب الأكثر غرابة في الروح الأميركية. يستخدم عباسي هذا التحليل لمحاولة شرح كيفية تشجيع الرأسمالية الأميركية عقلية ترامب الأنانية. إن ترامب الذي يرسمه عباسي محصور بفكرة واحدة يعبّر عنها ترامب في الفيلم، وتتلخّص في ثلاث قواعد تشكّل دليل الليبرالي الجديد المثالي: «هاجم، هاجم، هاجم»، و«انكر كل شيء»، و«حوّل الهزيمة إلى نصر: لا تعترف أبداً بأنك خسرت».
سيرياهوم نيوز 2_الأخبار