داود أبو شقرة
لعلَّ المجتمعات البشرية بدأت في عصر الأمومة الأولى بتبعية الأسرة-القبيلة إلى “الملكة الأم”، التي سارت فيها البشرية مراحلَ عدَّة خاضعةً للقيادة النسوية، وبالتالي تشكَّلتْ القبيلة على أساس أنها أسرة واحدة، تتبعُ في كليتها وقراراتها للمرأة-الأم.
هذا الأمر يتعالق –بطبيعة الحال- ومآلات الطبيعة الفطرية، حيث نجد أنَّ مَلِكةَ النحل –مثلاً- هي رأس النظام الهرمي المدهش الذي يتحوَّلُ فيه النحلُ إلى نوعين: نوع يقوم بجني الثمار من الزهر، وهم العاملون. ونوع يقوم بالخدمات التي تشمل صنع الخلية، والإشراف عليها، وحماية (القطيع-الأسراب) ومساعدتها وإسعافها، والدفاع عنها في حال حدوث مشكلة.
الأمر نفسه يحدثنا عنه التاريخ مع فئة الأمازونات التي تكوَّنت وفق نظام النحل، أو النمل، يُحدَّدُ دور فاعلية الذكور بعمليات الخدمة والحماية والتلقيح. ثم يتمُّ إلغاء دورهم في إدارة الخلية، حتى مواسم العمل والتزاوج.
ولعلَّ أسطورة الخلق السورية – وهي أقدم أساطير الخلق البشرية في العالم- تزوِّدنا بالنظام الأمومي الأوَّل، حيث نجد “إله السماء” الـ(بعل) يتناسل من “إلهة الأرض” (أرتس) أو أستر، وهي نفسها عشتر، أي: عشتروت، التي تحولت مع مرور الزمن إلى عشتار، وهي نفسها بيروت. ومعنى (أرتس) = الأرض. ومازالت بعض اللغات العربيات تحتفظ بالاسم نفسه حتى الآن كالنبطية والكنعانية والإبلائية والمصرية القديمة والفينيقة، والعبرية والجعزية والتيغرية والعربية الجنوبية. وذلك قبل أن تتشكَّل اللغة العربية العدنانية التي نتكلم بها اليوم، ومن هذه اللفظة تحور اسم (الأرض) أرتس حيث عمل ما يسمى “النحت والاشتقاق” فتحولت من آرت إلى أرض. إن التناغم اللفظي الذي يسبك مخارج الحروف يقودنا إلى أن الشقيقات من اللغات كان تعود إلى اصطلاح فقهي واحد، إضافة إلى التطور الذي حصل للكلمة حتى وصلت إلينا بصورتها الحالية. وهي تعبِّر عن الأرض- الأم على كل حال.
هذه الأرض نفسسها هي التي تندغم في بعدها الرمزي بـ(الأم) ببعديها اللغوي والرمزي، وسنجد أنَّ أبناء الأرض وبناتها سيحملون المعاني القريبة منها، ما يشير إلى حقيقة انتشار أسطورة الخلق السورية المسماة (البيضة الخالقة) في العالم، وأن تأثيرها في أساطير الخلق الأخرى واضحٌ وبيِّنٌ ولاسيما الأساطير الإغريقية-الأيونية ومن ثم الرومانية فيما بعد، لأن تعريف الإغريق –حسب قاموس الحضارة- يؤكد أنهم جزء من الشعب الكنعاني الذي انداح واستوطن “غرق” في بلاد المورة التي هي اليونان الحالية، ولذلك سنجد أن اللغة الأيونية (إحدى اللغات اليونانية القديمة، هي اللغة الكنعانية نفسها إلى حدٍّ كبير). وهذا ما يؤكد أن اللغة اليونانية القديمة أخذت من اللغة الكنعانية السورية القديمة الكثير من المفردات، إضافة إلى أن الأصول اللغوية وجذور الكلمات واحدة، خاصة الجذر الثنائي الذي بدأ بالتجريد المقطعي الصرفي، الذي يتشابه مع التجريد في اللغة المصرية القديمة التي تتعالق أيضاً واللغة السورية القديمة، ربما لأن (الهيك-سوس) الملوك الرعاة السوريين أسسوا في مصر ليس الأسر الحاكمة فحسب، بل نقلوا معهم آدابهم وحضارتهم بكل مفرداتها، والأهم فيما يخص بحثنا هنا، هو أن الملكة الأم بقيت حتى تلك العصور محافظة على منصب الملكة إلى جانب زوجها الملك. فكانت ترث التاج كأخيها، ولذلك نجد بقايا المشاعية الأولى لدى الفراعنة الذي يسمح بالزواج من الأخت، فكان الملك وأخته يعتليان العرش معاً. وحتى عصر البطالمة حيث وجدنا الكثير من الملكات يعتلين سدة العرش من حتشبسوت عبر نفرتيتي وصولاً إلى كليوباترة.
كما أنَّ اليونايين أخذوا عن أسطورة الخلق السورية أيضا أسماء الآلهة من مثل بوصيدون (إله البحر لمدينة صيدا) وصار اسمه “بوسيذون” وغيره الكثير.
إن المجتمع الأمومي الأول بقي مسيطراً على الحياة البشرية ردحاً طويلاً من الأزمان، حتى اندلعت الحروب بين أصناف البشر- الأخوة أو الأخوة الأعداء ابتداءً من عداوة الأخوين هابيل وقابيل، لأجل المرأة أيضا، وليس بسببها.
لذلك من الخطأ القول: إن الحروب كانت بسبب المرأة، بل لأجلها، لأن النساء لم يصنعن الحروب، بل قامت لأجلهن، من هيلينا إلى زنوبيا، ومامية، وصولا إلى شجرة الدر والكاهنة…
حتى مفهوم الحرب، هو مفهوم ذكوري، لأن المرأة بطبيعتها تحنو على أولادها، ولا تفكر بالعدوان، وربما لو أن حكام العالم نساء كالملاك المعجزة (إنجيلا ميركل) لكنا في عالم أفضل.
ما أودُّ قولَهُ: إن المجتمع الأمومي بقي مسيطراً على الحياة البشرية حتى اندلعت الحروب فتراجع دور المرأة إلى الصفوف الخلفية، ومع سيادة الأديان الوضعية والسماوية قبعت المرأة في الزوايا المعتمة.
وعلى الرغم من ذلك لو نظرنا إلى العماد الأساس للأسرة، والمجتمع ككل، فسنجد أنَّ المرأة هي العماد الأساس، وينحصر دور الرجل في كسب الرزق أكثر مما ينصبُّ على التربية والتعليم وتنظيم الاقتصاد المنزلي والمؤونة التي تعمل المرأة على استمرارها لضمان سبل استمرار الحياة عبر الفصول.
لقد انحسر دور المرأة مع سيادة عصر القوة، إلى أن جاءت الفلسفة القديمة التي بلغت ذروة نمائها مع (سقراط الحكيم) الذي أنصف المرأة –مع أن زوجته لم تكن مثالية- لكنه عمل على مفهوم المرأة من خلاله أفكاره الفلسفية، وشهدنا قصته مع إحدى طالباته (تيودورا) التي حولها من بغي إلى فيلسوفة، فضلاً عن أنه كان يختلف إلى مجلس (إسبازيا) المرأة الحكيمة التي سحرت المجتمع بمنطقها ورجاحة عقلها، لدرجة أنها شكلت مع (سولون) أحد ركائز الديمقراطية، وأساليب الحكم في أثينا القديمة.
لكن مع سقوط أثينا بيد الإسبارطيين، ومن ثم صعود روما إلى الوجود، وفرض النظام العسكري الاستعماري الصارم، تراجع الفكر، وتراجع دور المرأة معاً. وبعد سقوط روما بشكل نهائي في العام 476م سيطرت الكنيسة الكاثوليكية (الفاتيكان) فتشدَّدت أكثر في فرض النظم والقوانين، وبقي هذا التشدد قائماً في العصور الوسطى المظلمة بكاملها.، حتى طالعتنا في القرن العاشر الميلادي صبية من الراهبات تدعى Roswitha روزفيثا حيث بدأت بكتابة بعض المسرحيات التي قلبت مفاهيم الكنيسة ذاتها. فبعد أن كانت النظرة إلى الأدب المسرحي والتمثيل نظرة المجتمع المستمد من الكنيسة على أنهم طبقة من اللصوص وقطاع الطرق الخارجين على القانون، والعاهرات، بدأت النظرة بالتغيُّر، مع تقديم مسرحية “الجمعة العظيمة” على خشبة الكنيسة نفسها، ليأخذ المسرح خطوة بعيداً عن المعبد فتتشكل الولادة الثانية للمسرح بعد أن كانت الولادة الأولى على يد اليونانيين الأوائل مبتعدين عن دوره التعبدي في المسرحين السوري والمصري.
وهناك مثل شعبي في جبل العرب –على اختصاره- لكنه عظيم في أهميته، فهو من خلال كلمتين يلخص تاريخ العالم. يقول المثل: “الدنيا أم”. إننا لم نر الآداب والفنون قد أنصفت المرأة، ولم تعطها حقَّ قدرها، لذلك نجد القليل من المسرحيات، أو الروايات، أو الأفلام التي عالجت قضية المرأة من وجهة نظر فكرية أو فلسفية. على الرغم من أن المرأة هي محركة العالم، وكما قال نابوليون بونابرت: “إن المرأة التي تستطيع أن تهزَّ سرير رضيعها بيد، تستطيع أن تهزَّ العالم باليد الثانية”. هذا صحيح، مع ذلك انصرفت عنها الآداب والفنون، إلا من خلال دورها الدرامي المكمل للبطل-الرجل.
هذا الأمر ينسحب على المسرح، والرواية، والسينما، ولكن قد نجد تجاوزات في الفنون التشكيلية، ربما تأتت عن أن الأساطير القديمة وقصص الأنبياء تحفل بقصص النساء، لكني لاحظت أنها تأتي على الهامش، وليست في الدور المحوري، كامرأة لوط، وزوجة عزيز مصر التي راودت يوسف عن نفسه، هي وردت عرضاً محملة على قصة النبي يوسف، وقصة النبي لوط. ومع أن (أستير) غيرت مصير شعبها عندما أحبها الإمبراطور الفارسي، إلا أن دورها بقي من دون معالجة حقيقية.
لكن لا بد من الإشارة إلى رواية الأم شجاعة وأبنائها، وكذلك مسرحية برتولد بريخت الأم شجاعة التي عالجت الواقع من وجهة نظر المرأة، أو لنقل كانت المرأة هي البطل الرئيس. وعلى الرغم من أنَّ المسرحية التي تدور وقائع أحداثها خلال الحرب، إلا أنها لم تتكلم عن الحرب إلى عرضا، أي خارج البنية الدرامية للنص، وحتى البطلة التي تدير مطعماً للجنود، وتسخرهم في نقل عربتها – المطعم إلى مواقعهم الجديدة، وتعبر حواجز الحرب من دون أي شعور بالانتماء، ترى أنه يجب استمرار الحرب لأنها مصدر رزقها الوحيد لكي تطعم أبناءها. هذه الحرب التي أكلت الأبناء جميعاً.
ويمكن الإشارة في السينما إلى أفلام قليلة انصب موضوعها الرئيس على المرأة مثل فيلم (روزا لوكسمبورغ) المناضلة التقدمية ضد النازية، وكذلك فيلم (وطن الشمال) الذي يتحدث عن التحرش الجنسي، وكذلك فيلم (Wild 2 ) الذي يحكي قصة (تشيلر) التي عانت من اضطرابات نفسية وجسدية، وقد قررت أن تقوم برحلة غيرت مسار حياتها كإنسانة وعلى المستوى العملي. هذه قصص حقيقية تحولت إلى أفلام. لكن على المستوى العام فإن هناك تقصير واضح في معالجة قضايا المرأة في الأدب والفن.
اليوم العالمي للمرأة
هو احتفال عالمي يحدث في الثامن من شهر آذار/مارس كل عام، ويقام للدلالة على الاحترام العام للمرأة، وجاء هذا الاحتفال بمناسبة عقد أول مؤتمر للاتحاد النسائي الديمقراطي العالمي في باريس عام 1945م. ومعروف أن اتحاد النساء الديمقراطي العالمي يتكون من المنظمات الرديفة للأحزاب الشيوعية، وكان أول احتفال عالمي بيوم المرأة العالمي رغم أن بعض الباحثين يرجح أن اليوم العالمي للمرأة كان على إثر بعض الإضرابات النسائية التي حدثت في الولايات المتحدة. وفي بعض الأماكن يتم التغاضي عن السمة السياسية التي تصحب يوم المرأة فيكون الاحتفال أشبه بخليط ما بين يوم الأم ويوم الحب. ولكن في أماكن أخرى غالباً ما يصحب الاحتفال سمة سياسية قوية وشعارات إنسانية معينة من قبل الأمم المتحدة، للتوعية الاجتماعية بنضال المرأة عالمياً.
(سيرياهوم نيوز-صفحة الكاتب 11-3-2022)