كريم حداد
لم تكن المسيحية في بلاد الشام يوماً هامشاً دينياً أو إضافة عددية إلى فسيفساء طائفية، بل كانت عبر قرون طويلة عنصراً تأسيسياً في تكوين المجال الاجتماعي والثقافي والسياسي. من المدينة الشامية القديمة إلى المرافئ المتوسطية، ومن المدرسة إلى المطبعة، ومن اللغة إلى الصحافة، أسهم المسيحيون في صياغة حداثة مشرقية مخصوصة، لا هي استنساخ للغرب ولا ارتداد إلى تقليد مغلق.
هذه الحداثة لم تُولد من فراغ، بل من عمق تاريخي متراكم، جعل الانتماء الديني جزءاً من نسيج أوسع، لا عنواناً للصراع ولا مبرراً للإقصاء.
غير أن هذا الموقع التأسيسي تعرّض، خلال القرن العشرين وما تلاه، إلى اهتزازات متتالية بفعل انهيار الدولة العثمانية، وصعود الانتدابات، وتشكّل الدول الوطنية الهشّة، ثم تفجّر الصراعات الإقليمية الكبرى.
في خضمّ هذه التحوّلات، بدأ يتشكّل نمط جديد من التموقع: انتقال جزء من المسيحيين، رمزياً وعملياً، من موقع العمق التاريخي إلى موقع الوظيفة السياسية داخل مشاريع أكبر منهم. هنا لا يعود السؤال دينياً، بل سياسياً بامتياز: ماذا يعني أن يُعاد تعريف جماعة تاريخية بوصفها «واجهة» ثقافية أو أخلاقية لمشروع صراعي؟
السياسة، في جوهرها، ليست إدارة القوة العسكرية فقط، بل تنظيم المعنى وتوزيع الشرعية. ومن يملك القدرة على التأثير في الاقتصاد والثقافة والفن والإعلام والسياسة، يمتلك أدوات تشكيل الوعي العام بقدر ما يمتلك أدوات القسر. في هذا السياق، يصبح للمسيحي، حين يُفصل عن عمقه الشامي، دور مختلف تماماً: دور الوسيط القادر على ترجمة خطاب القوة إلى لغة مقبولة دولياً، وتقديم صورة التعددية والحداثة، ومنح الصراع طابعاً «مدنياً» يخفي جوهره الاستيطاني أو الإقصائي. هكذا تتحوّل القوة الناعمة إلى شريك للقوة الصلبة، ويغدو الرمز جزءاً من آلة الهيمنة.
لكن هذا التحوّل لا يخلق قوة جديدة بقدر ما يعيد توزيع عناصر قائمة. فالقوة الفعلية، بمعناها المادي، لا تُستمد من الثقافة وحدها، ولا من الإعلام، ولا من الخطاب الأخلاقي. إنها تتأسس على الكثافة السكانية، والقدرة على الصمود، والارتباط العضوي بالأرض. وهذه عناصر لا تُستعار ولا تُستورد. لذلك، حين يُستثمر المسيحي خارج سياقه التاريخي، لا يُنتج عمقاً بديلاً، بل يملأ فراغاً رمزياً مؤقتاً، سرعان ما ينكشف عند أول اختبار وجودي حقيقي.
في المقابل، يطرح تيار المقاومة نفسه بوصفه تعبيراً عن صراع على المعنى قبل أن يكون صراعاً على الحدود. المقاومة، في هذا الفهم، ليست هوية دينية ولا مشروعاً طائفياً، بل ردّ سياسي على محاولة اقتلاع العمق وتحويل الجغرافيا إلى وظيفة أمنية. من هنا، فإن الصدام بين المقاومة والتحالف القائم بين القوة الصلبة والناعمة ليس صدام أسلحة فقط، بل صدام سرديات: سردية ترى في الأرض ذاكرة وحقاً وتاريخاً، وسردية تختزلها في ملف أمني أو مسألة إدارية.
وجود المسيحيين داخل العمق الشامي كان، تاريخياً، عامل توازن في هذا الصدام. لم يكونوا «ذخيرة» للمقاومة ولا «ذريعة» لخصومها، بل عنصراً يمنع اختزال الصراع في ثنائية دينية مغلقة. كانوا، بحضورهم الثقافي والاجتماعي، يوسّعون أفق السياسة، ويُبقون الصراع مفتوحاً على قيم العدالة والتحرّر لا على منطق الحرب الأبدية بين هويات صمّاء. أمّا إخراجهم من هذا الموقع، فيُفقِر المجال العام، ويُضعف إمكان بناء خطاب مقاوم جامع، ويُسهّل إعادة تعريف الصراع بلغة أخلاقية مزيّفة تخدم ميزان قوى مختلّاً.
ليس المقصود هنا إدانة خيارات فردية ولا تحميل جماعة بكاملها مسؤولية مسار تاريخي معقّد. فالخوف الوجودي، وتراجع الدولة، وضغوط الخارج، كلّها عوامل دفعت كثيرين إلى البحث عن حماية في مواقع بديلة. غير أن السياسة لا تُقاس بالنوايا، بل بالنتائج. والنتيجة الأوضح لهذا التحوّل هي تقليص هامش الفعل المستقل، وربط المصير بمشروع لا يسمح بالاختلاف ولا يعترف بالعمق إلا بوصفه خطراً يجب تحييده.
إن السؤال الحقيقي الذي يواجه المسيحيين في بلاد الشام اليوم ليس سؤال البقاء العددي فقط، بل سؤال المعنى السياسي لوجودهم. هل يكون هذا الوجود امتداداً لتاريخ طويل من الشراكة في إنتاج المدينة والثقافة واللغة؟ أم يتحوّل إلى وظيفة ظرفية في صراع أكبر، تُستنزف رمزياً ثم تُهمّش عند تغيّر موازين القوى؟ الإجابة عن هذا السؤال لا تُكتب في البيانات ولا تُحسم في الإعلام، بل تتشكّل في موقع الجماعة من الصراع الاجتماعي والسياسي، وفي قدرتها على استعادة دورها كفاعل لا كوسيط.
في المحصّلة، تكشف التحوّلات الراهنة أن الصراع في المشرق ليس فقط على من يحكم، بل على من يعرّف المعنى. والمسيحيون في بلاد الشام، بما يملكونه من تاريخ وثقافة ورأسمال رمزي، يقفون في قلب هذا الصراع. إمّا أن يظلّوا جزءاً من عمق تاريخي يحول دون تحويل المنطقة إلى فسيفساء كيانات وظيفية، وإمّا أن يُعاد توظيفهم في لعبة توازنات قصيرة النفس، تُفرغهم من قدرتهم على التأثير المستقل. وفي هذا التقاطع بالذات، يلتقي مصيرهم مع مصير المقاومة، لا بوصفها خياراً عسكرياً، بل بوصفها دفاعاً عن المعنى، وعن حق الأرض في أن تكون تاريخاً لا ملفاً.
أخبار سوريا الوطن١-الأخبار
syriahomenews أخبار سورية الوطن
