ابراهيم الأمين
ليس بين الحاضرين في الغرف الرسمية والدبلوماسية في لبنان مَن هو ساذج إلى حدّ الاعتقاد بأن قراراً يصدر عن مجلس الوزراء قادرٌ على إنهاء مسيرة مقاومة يعود عمرها إلى عمر الاحتلال نفسه. وليس بين هؤلاء مَن يملك أولاً القدرة على تحمّل مسؤولية بهذا الحجم، فضلاً عن سؤال أكثر جوهرية يتعلق بالقدرة على تحقيق هذا الهدف؟
هذه الحقيقة لا تقتصر على مَن يتداولون الأوراق والأفكار محلياً، بل هي راسخة أيضاً لدى أصحاب الوصاية الخارجية، في قلب الإدارة الأميركية، وفي المملكة العربية السعودية، ومن خلفهما إسرائيل.
لا حاجة فعلية إلى السؤال عن موقف أطراف محلية ارتضت، منذ زمن طويل، أن تكون أداةً بيد أطراف الوصاية الخارجية، سواء كانت تلك التي خضعت سابقاً للوصاية السورية – السعودية، أو التي انضمت لاحقاً إلى محور الوصاية الأميركية – الأوروبية – السعودية، قبل أن ينضوي الجميع، اليوم، تحت سلطة الوصاية الأشد فتكاً، والمتمثّلة بالولايات المتحدة والسعودية.
السؤال موجّه فعلياً إلى من يمثّلون قسماً وازناً من الجمهور، أي إلى أولئك الذين يدركون أن أي موقف يتخذونه اليوم سيرتدّ مباشرة على قواعدهم الشعبية. وهي قواعد لا تتشكّل فقط على أساس سياسي، بل أيضاً على أسس طائفية ومذهبية ومناطقية، وستكون هي من يدفع ثمن قرارات ممثّليها في مواقع القرار.
يتصرّف عون وسلام على أساس أن مهلة السماح المُعطاة
لهما خارجياً قد انتهت بينما يواجه بري تحدّياً مباشراً حول من يحفظ الدور الشيعي
وهو سؤال ينبغي أن يتأمّله كلّ من يظنّ أن الخضوع للوصاية الخارجية اليوم يمكن أن يعفيه من المساءلة في الغد، أو أنه سيمنحه حصانة دائمة لدى أطراف الوصاية أنفسهم. ومن يحتاج إلى دليل، يكفيه أن ينظر في طريقة إدارة الولايات المتحدة والسعودية لملفات دول وشعوب كالأردن، والسلطة الفلسطينية، وسوريا الجديدة!
أما بالنسبة إلى المسؤولين الحاليين في موقع القرار، أي الرئيسين جوزيف عون ونواف سلام، ومن ثم الرئيس نبيه بري، فإن المقاربة تأخذ منحى مختلفاً بعض الشيء. إذ إن طريقة تعاطي رئيسَي الجمهورية والحكومة مع ملف السلاح، وما طرحاه خلال الأسبوعين الماضيين، تشير إلى أمر واضح: فترة السماح التي منحتها لنا أطراف الوصاية التي أوصلتنا إلى مناصبنا انتهت، ونحن اليوم أمام اختبار أخير لا يحتمل التردّد أو المناورة، وعلينا ألّا نغامر بما تبقّى لنا من رصيد لدى هذه الجهات التي يعرف عون وسلام قبل غيرهما أنها هي من أوصلتهما إلى حيث هما اليوم.
أما في ما يتعلق بالرئيس بري، فإن السؤال يُطرح مجدّداً وبقوة: ما هي آلية تعاطيه في هذه المرحلة مع أطراف الوصاية الخارجية من جهة، ومع شركائه في الحكم من جهة أخرى؟
ولكي يكون الحديث مباشراً، فإن رئيس المجلس النيابي، يتصرّف باعتباره الممثل الأول للشيعة في لبنان، والمؤتمن على مصيرهم ودورهم وحضورهم في سلطة ما بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان، وما بعد سقوط حكم بشار الأسد في سوريا.
والسؤال هنا، عما تحقّق فعلياً نتيجة اعتماد سياسة بدت، في كثير من الأحيان، مرنة إلى حدّ المبالغة، ليس فقط في التعامل مع ممثّلي الوصاية داخل لبنان، بل مع أطراف الوصاية أنفسهم. ويزداد هذا السؤال إلحاحاً، لأن بري يدرك تماماً أن ما يجري حالياً – ولا سيما ما تقوم به السعودية، قبل الولايات المتحدة – لا يخرج عن إطار مشروع متكامل يهدف إلى «تحجيم الحضور الشيعي»، ليس فقط في مفاصل الدولة، بل أيضاً في الحقول الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والإعلامية.
ويعرف رئيس المجلس أيضاً أن هدف نزع سلاح المقاومة لا يقتصر على البُعد الإسرائيلي، المتعلق بإزالة ما يهدّد أمن الكيان، بل يتعداه إلى ما يطمح إليه أطراف الوصاية وجماعتهم في لبنان، ممن يرون في هذا السلاح عائقاً يحول دون إمساكهم الكامل بمفاصل السلطة، والعودة بالبلاد إلى ما قبل 6 شباط 1984.
ومن هنا، تترتّب على بري مسؤولية تتجاوز حتى مسؤولية قيادة حزب الله. فالحزب، من جهته، حسم خياره، وأبلغه إلى رئيس المجلس بوضوح، مع شروحات مفصّلة، مفادها أن سلاح المقاومة ليس مطروحاً للنقاش أو التفاوض، ولا يمكن أن يدخل في بازار المساومات السياسية.
لكن، لماذا يصرّون على المضيّ في هذا الفعل المشين؟
صحيحٌ أن البعض قد يخرج ليقول إن أي قرار يصدر عن مجلس الوزراء في هذا الشأن لن يكون قابلاً للتنفيذ. هذا قول نعرفه جيداً، كما يعرفه من سيصادق على القرار داخل الحكومة، ويعرفه الأميركي والسعودي، بل حتى الإسرائيلي، قبل كثيرين من اللبنانيين. لكنّ كل هؤلاء لا يتعاملون مع القرار بوصفه خطوة تنفيذية آنية، بل كمدخل لمسار طويل، لا أحد يستطيع التنبؤ إلى أين سينتهي. ومن تلتبس عليه الأمور حول خطورة ما يجري، من المفيد تذكيره بالآتي:
أولاً، إن الحكومة الحالية تحاول التصرف باعتبارها تمثّل مركز الشرعية والدستور في البلاد. وبالتالي، فإن اتخاذها قراراً بنزع سلاح المقاومة لا يُقرأ فقط بوصفه قراراً إدارياً، بل بوصفه إعلاناً بنزع الشرعية الوطنية عن هذا السلاح، وتحويل المقاومة من حركة تحرر وطني تحظى بغطاء الدولة كمؤسسة تعبّر عن إرادة شعبها، إلى مجموعة خارجة عن القانون، يجب ملاحقتها، وتجريمها، ومحاربتها.
ثانياً، هذا القرار هو فاتحة لمرحلة جديدة من الإجراءات التصعيدية المتدرّجة، تبدأ بنزع الصفة الرسمية أو القانونية عن أي مؤسسة يُعتقد أنها تصبّ في مصلحة المقاومة أو تدعمها بصورة مباشرة أو غير مباشرة. وإذا كان أزلام الوصاية لا يدركون حجم ما ينخرطون فيه، فليسألوا سلطة رام الله، أو ملك الأردن، أو حاكم دمشق الحالي، عن المطالب التفصيلية التي فُرضت عليهم. وغداً سنسمع من يطالب وزارة الداخلية بإلغاء ترخيص «جمعية القرض الحسن»، أو من يدعو إلى إقفال «مؤسسة الشهيد» وكل ما يتفرّع عنها، من مستشفيات ومستوصفات ومراكز تعليم. وسيتقدّم لاحقاً من يعتبر أن المدارس والجامعات التي تتلقّى تمويلاً من «جهة مارقة» يجب أن تُغلق، قبل أن يخرج علينا من يطالب بسحب تراخيص جميع المؤسسات المدنية التابعة للمقاومة. وحينها، لن يكون مستغرباً أن نصل إلى لحظة تُجرّم فيها الدعوة إلى التبرّع للمقاومة أو دعم مجاهديها، في مشروع لإلغاء فكرة المقاومة من الوجود، وليس فقط تحجيم قدراتها.
ثالثاً، برامج الحصار المالي المفروضة على بيئة المقاومة ستأخذ منحى مختلفاً، عندما يبدأ وزراء ومسؤولون – هم في الحقيقة ليسوا أكثر من «خدم» عند الوصيَّيْن الأميركي والسعودي – بالمجاهرة بالمطالبة بمصادرة كل قرش يُشتبه بأنه يصبّ في مصلحة المقاومة باعتبارها «عصابة» مطاردة من العدالة.
رابعاً، إن من يسهّل مرور قرار مجلس الوزراء بشأن نزع سلاح المقاومة، إنما يفتح الباب أمام برنامج متكامل لتجريم من ذكر أسماء مقاومين استشهدوا من أجل بلادهم وأهلهم، وسيكون عرضة للعقاب كل من يفكر بالدعوة إلى تبنّي فكر المقاومة، وسيكون لبنان مركزاً لنبذ فكرة المقاومة ضد الاحتلال. ولا نعلم ما إذا كان هؤلاء المجانين سيقودون البلاد إلى تجريم تمجيد بطولات المقاومين أو الاحتفال بإنجازاتهم، لأن الوصي، لن يترك شيئاً إلا ويلاحقه، وصولاً إلى إلغاء عيد المقاومة والتحرير… ألم تروا كيف تصرّف أهل الحكم مع تحرير المناضل جورج عبدالله… أين هم أهل الدولة منه اليوم؟.
خامساً، إن قراراً يصدر عن مجلس الوزراء يعتبر سلاح المقاومة مخالفاً للدستور وللقوانين، سيسمح لأطراف الوصاية، خصوصاً الأميركيين والسعوديين، بفرض الحرم على كل من يتعاون أو يتحاور أو يتحالف أو يتشارك الأفكار مع حزب الله. وهو سقف سياسي يراد منه محاصرة المقاومة عشية الانتخابات النيابية المقبلة. ومن خضع وقبل بهذا النوع من التمثيل السياسي في حكومة نواف سلام، قد يجد نفسه بعد بضعة أشهر أمام لائحة يختارها فضلو خوري للمرشّحين عنه إلى المجلس النيابي.
الحقيقة أن المقاومين أنفسهم، أو قيادتهم، ليسوا في موقع المُصاب بالذعر جرّاء ما ينوي أزلام الوصاية القيام به. وحتى جمهور المقاومة والبيئة الداعمة لها، وإن كانا في ذروة الشعور بالاستفزاز، ليسا في وارد الاستجابة للمشروع الأميركي – السعودي – الإسرائيلي بخلق فتنة تتحوّل إلى حروب أهلية متنقّلة في لبنان.
تحدّيات وقف العدوان الإسرائيلي، وتحرير الأسرى اللبنانيين، والضغط على هذه الدولة – المسخ لإطلاق عملية الإعمار، كلّها أمور تدفع المقاومة إلى مراجعة سياسة الانفتاح والتعاون التي اعتمدتها منذ وقف إطلاق النار وانتخاب الرئيس وتشكيل الحكومة… وقد تجد نفسها في لحظة تحتاج فيها إلى ما هو أبعد من البيانات والمواقف فقط!.
أخبار سوريا الوطن١-الأخبار