الرئيسية » كتاب وآراء » المصالحة ولو في الصين!

المصالحة ولو في الصين!

 

رأي سعد الله مزرعاني

 

تعدّدت خيبات «المصالحة الفلسطينية-الفلسطينية» بتعدّد محطّاتها. استهلكت الخلافات والانقسامات والوساطات و«المصالحات» حوالي عقدين من الزمن. في الأثناء، استطاع العدو الصهيوني أن يتخذ لنفسه موقعاً مؤثّراً في تغذية الانقسام وفي اشتراط استمراره. حصل ذلك بدون ثمن لدعاة التفاوض المجرد والصافي. على العكس، أمعن العدو في مخططه التصفوي بكل الوسائل، لإضعاف طرفَي الانقسام، مستخدماً ما تيسّر له من أساليب الخداع والغدر والعدوان والإرهاب والقتل والضم وبناء المستوطنات والحصار… وهو واصل التنكر، ليس فقط للقرارات الدولية القديمة، بل حتى للاتفاقات الجديدة التي انطوت على الكثير من التفريط والتنازلات.واكبت واشنطن هذه العملية من موقع «الوسيط» المشارك مؤقتاً، مع الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي وروسيا، في رعاية المفاوضات. لكنها سرعان ما انفردت واستفردت مع العدو بالفريق الفلسطيني: تستنزف طاقاته، وتشجع صراعاته، وتثابر على محاولة تصفية قضيته… إلى أن انتُخِب دونالد ترامب رئيساً للولايات المتحدة عام 2016، وأقدم على تنفيذ ضربته الكبرى تحت عنوان «صفقة القرن». هو انقلب كلّياً على «اتفاق أوسلو» خصوصاً في ما يتعلّق بالعناوين الأساسية المؤجّلة: القدس والحدود والانسحاب ويهودية الدولة والجولان! إلى ذلك، فقد باشر سلسلة من الضغوط الوقحة لفرض عمليات تطبيع عربية سعى لأن تكون شاملة لمصلحة المعتدي وتحقيقاً لأطماعه.

لم تلغِ إدارة الرئيس بايدن أي قرار من قرارات ترامب المذكورة، بل لجأت إلى المراوغة تمكيناً للصهاينة من تعزيز مواقعهم. لهذا الغرض واصلت الضغوط من أجل توسيع التطبيع ليشمل أيضاً أكبر دولة عربية – إسلامية، مقايضةً ذلك بمساومات وتعهدات بدعم فريق الملك سلمان وولي ولي عهده الأمير محمد المنقلب على التراتبية العائلية المعتمدة.

كان هذا هو الواقع المختلّ لغير مصلحة الطرف الفلسطيني حين فاجأت الجميع عملية «طوفان الأقصى». هي شكّلت حدثاً انعطافياً في مجمل المسار السابق. أكثر المتفاجئين كان العدوّ الصهيوني وشركاءَه من المطبّعين القدماء والجدد. كذلك كان الأمر بالنسبة إلى الإدارة الأميركية وخصوصاً الفريق الصهيوني فيها الذي تولّى ممثلوه دائماً مسؤولية ملفات الصراع العربي الإسرائيلي، عموماً، والصراع الإسرائيلي – الفلسطيني خصوصاً.

بالمقابل، تبيّن أن الانقسام، في الطرف الفلسطيني، أرسخ من أن يهزّه حدث ضخم بحجم عملية «طوفان الأقصى». كان ذلك الانقسام قد تبلور إلى دويلتين وسلطتين تتنازعان على كل شيء. وهو نزاع ابتدأ بالصراع على السلطة. ثم هو توسّع وتعمّق نحو تناقض وتباين في العلاقات والأساليب والخيارات، ما جعله يستعصي على أي محاولة مصالحة أو تقارب. بذلك افتقر كفاح وتضحيات الشعب الفلسطيني إلى العوامل التي شكّلت رافعة انتصار حركات تحرّر مشابهة: لجهة وحدة البرنامج والقيادة والخطط والتحالفات الداخلية والخارجية. ليس أدلّ على ذلك من اضطراب التعامل مع مسألة المفاوضات التي، في حالتي إجرائها أو انقطاعها، كانت تتمّ من خارج استراتيجية تحرير واضحة ومحدّدة وفي خدمتها. لفترة طويلة، كان ثمّة صراع دون مفاوضات. حصلت، في الأثناء، عدة انتفاضات كبيرة بدءاً من الأولى أواخر عام 1987. وهي أسهمت في التمهيد للمفاوضات العربية الفلسطينية – الإسرائيلية في مدريد أواخر عام 1991. تلت ذلك مرحلة مفاوضات دون صراع، أعقبها صراع ومفاوضات شارك فيها قائد «فتح» ورئيس منظمة التحرير ياسر عرفات، وأودت به وبمؤسس حركة «حماس» الشيخ أحمد ياسين عام 2004. ثم تدحرجت الأمور بعد ذلك إلى تموضعين وموقعين منقسمين بعد الانتخابات والصراعات: غزة وحكومتها في كنف الحصار، ورام الله و«سلطتها» في كنف الاحتلال. تعذّر بعد ذلك كل تفاهم أو مصالحة. تجدر ملاحظة أن الطرف الفلسطيني لم يكن يوماً ساعياً أو مبادراً إلى الوحدة، وإن لم يرفض، أبداً وشكلياً، التفاوض بشأنها!

تحرّكت المحاولة الصينية، بالتزامن مع بلوغ الصراع العام في غزة وفلسطين والمنطقة، مفترقاً دقيقاً وحساساً ومصيرياً أكثر من أي وقت مضى. لقد تعاظم الصمود الفلسطيني بمقدار ما تعاظمت المجازر والارتكابات حتى حرب الإبادة، بالتدمير والقتل والتجويع في غزة، وبالإرهاب في الضفة المقاوِمة، تمهيداً لتشريد أهلها ولمحاولة ضمّها في نطاق مخطّط متكامل للتصفية التامّة للشعب الفلسطيني ولقضيته. ثم إنّ هذه الحرب قد استطالت وتعاظمت خسائرها ومخاطرُ توسعها. وهي قد أصبحت، بفعل التوازنات القائمة، عاملاً ضاغطاً على الجميع: فلسطينيين وصهاينة وإقليميين ودوليين (وخصوصاً واشنطن). ورغم ذلك ظلّت العلاقات الفلسطينية – الفلسطينية عاجزة عن اشتقاق مبادرة ذاتية لمواجهة هذا الواقع الاستثنائي والبالغ الخطورة. بل إنه في الفترة الأخيرة، وبسبب ضغوط عربية وخداع واشنطن ومحاولتها إخراج نتنياهو من مأزقه، تقدّمت عوامل التباعد وانعدام الثقة على ما سواها، حتى حصلت وتبلورت المبادرة الصينية. أهمية هذه المبادرة في اندراجها في سباق تجارب ناجحة لبكين آخرها المصالحة السعودية الإيرانية واستئناف العلاقات بين البلدين اللّدودين في 10 آذار 2023. أمّا الجانب الآخر، فيتمثّل في عجز واشنطن عن وضع حدّ للصراع بسبب موقفها المنحاز إلى إسرائيل، وبسبب سقوط وساطتها، وسط شجب وتنديد دوليين غير مسبوقين بالموقفين الإسرائيلي والأميركي، ما تطلّب، موضوعياً، تدخّلاً دولياً من نوع آخر، أكثر حيادية وأكثر جدّية.

إن من شأن المبادرة الصينية وحدها، بما أفضت إليه من تفاهم أولي متوازن (هو حاجة لكل من «فتح» و«حماس» خصوصاً)، أن تفتح أفقاً لحل يتناسب مع التحولات الإيجابية الأخيرة لـ«الشرعية الدولية»، ومع عدالة حقوق وقضية الشعب الفلسطيني. وهي قد تشكل إذا التزمت بها فعلاً الأطراف الفلسطينية الأساسية، تمهيداً وتأهيلاً لا مفر منهما كي يأخد الطرف الفلسطيني دوره وموقعه وموقفه الموحّد الصحيح في مسار التسويات المؤقتة أو الدائمة. أما بالنسبة إلى الوضع الدولي، فمثل هذا التوجه سيشكل لبنة جديدة في مسار تراجع التفرد الأميركي لحساب بلورة تعدد قطبي تدق أبوابه الصين، بقوة وثبات، وتثابر موسكو على محاولة تكريسه بالتحدي والمجابهة والاستباق.

إن أخطاراً عظيمة تواجه الشعب الفلسطيني وقضيته وحقوقه الآن. لكن بطولات مقاتليه وصمود مدنيّيه وتصميم داعميه قد أتاحت فرصاً ثمينة لتحقيق إنجازات كبيرة لمصلحة استعادة جزء من أرضه وحقوقه في مسار كفاحه المديد من أجل تقرير المصير والحرية والاستقلال. ليس لأي طرف فلسطيني أن يتردّد في الوقوف في الجانب الصحيح من الصراع. لا يمكن التسامح مع أولئك الذين يفوّتون هذه الفرصة لتوحيد الصفوف الفلسطينية في مواجهة الإجرام الصهيوني الذي بات يشكل، أيضاً، تحدياً واستفزازاً لا سابق لهما، لقيم العدل والسلام والمساواة والحرية والحقوق الإنسانية على امتداد العالم.

 

سيرياهوم نيوز1-الاخبار اللبنانية

x

‎قد يُعجبك أيضاً

هل يعلن ترامب الحرب على الصين؟

نور ملحم في وقت يستعد فيه الجيش الأمريكي لحرب محتملة ضد الصين، ويجري تدريبات متعددة لمواجهة ما سُمي بـ«حرب القوى العظمى»، بدأت بكين في بناء ...