يعيش القاضي زياد أبو حيدر رُعباً غير مسبوق. بين يديه ملف الادعاء على حاكم مصرف لبنان المركزي رياض سلامة لارتكابه جناية اختلاس أموال الشعب، لكنّ القاضي الأرثوذكسي يرى فيه كرة نارٍ يريد إبعادها عنه بأيّ طريقة كي لا تحرقه، فيما تُمارس عليه ضغوط سياسية وطائفية من كلِّ حدبٍ وصوب لحماية سلامة، وليّ نعمة الكثيرين. وهو يخشى حتى القيام بدور «ساعي البريد»، بتنفيذ أمر رئيسه النائب العام التمييزي غسان عويدات الذي طلب منه تحريك دعوى الحق العام أي الادعاء. لذلك، في حال إصرار أبو حيدر على التمرّد على أوامر رئيسه برفض الادعاء، فإنّ عليه الردّ بكتابٍ خطّي سينقلب عليه حتماً لتثبيت واقعة ارتكابه خرقاً للقانون. إذ لا يحق للنائب العام الاستئنافي أن يناقش طلبات المدعي العام التمييزي لكونه ليس مرجعاً للطعن بقرارات رئيسه، كما لا يملك خيار مراقبة قانونية قرارات رئيسه، بل إنّ له فقط حق الطلب من رئيسه إرسال الطلب خطياً، ولا سيما أنّ عويدات لم يسأل أبو حيدر ما إذا كان مختصاً أو لا، بل طلب منه الادعاء تبعاً للسلطة الممنوحة له بحسب المادة ١٣ من أصول المحاكمات الجزائية.
ورغم التشويش الذي تحاول «جوقة سلامة» تعميمه بعدم اختصاص أبو حيدر للادعاء لكونه من اختصاص النيابة العامة المالية، إلا أنّ نص المادة ٢١ من القانون نفسه واضح إذ يرد فيه ما حرفيته: «للنائب العام المالي أن يطلب، بواسطة النائب العام التمييزي، من النائب العام الاستئنافي في كل المحافظات تحريك دعوى الحق العام أمام قضاة التحقيق أو الادعاء مباشرة أمام المحاكم المختصة. وبالتالي، لا يمكن للنائب العام المالي الادعاء مباشرة إلا عبر النائب العام الاستئنافي»، فضلاً عن أنّ القاضي علي إبراهيم عضو في هيئة التحقيق الخاصة التي يرأسها سلامة. وبالتالي، لن يكون بإمكانه طلب الادعاء على رئيسه لتنازع المصالح كونه صاحب مصلحة شخصية مع سلامة، مع أنّ أحد المخارج التي كانت مطروحة أن يُحال الملف إلى إبراهيم ليُكلّف أيّ محام عام، ثم يطلب من النائب العام الاستئنافي الادعاء. غير أنّ القاضي علي إبراهيم يمهر توقيعه على جميع أوراق النيابة العامة المالية. لذا كان لزاماً على أبو حيدر أن يسجّل الادعاء فوراً ويُحيله إلى قاضي التحقيق ليبدأ استجواب سلامة في الجنايات المدّعى عليه فيها. غير أنّ سلامة، عبر هذه الضوضاء، يحاول الإيحاء بوجود خلاف قانوني وبأنّ القضاة غير متّفقين بشأن الادعاء عليه لتضييع الملف.
هذا في القانون. أما في كيفية الوصول إلى قرار الادعاء على سلامة، فتكشف مصادر مطلعة على الملف عن تفاصيل اجتماع عُقد في القصر الجمهوري، شارك فيه رئيس الجمهورية ميشال عون ورئيس الحكومة نجيب ميقاتي ومستشار القصر سليم جريصاتي والمدعي العام التمييزي، قبل أن ينضم إليهم وزير العدل هنري خوري. الاجتماع كان مخصصاً لمناقشة ملف الصرافين وشحن الأموال وقضية ميشال مكتّف. وخلاله، سأل جريصاتي عن مصير ملف سلامة، فتحفّظ عويدات عن الإجابة قبل انتهاء التحقيق، وعلّق ميقاتي بالقول إنّه سبق أن أبلغهم أن: خذوه وافعلوا ما شئتم بعد إنجاز توقيع العقد مع البنك الدولي.
تقرير الادعاء جاهز ويشمل شخصيات ومصارف لبنانية وأجنبية
وفيما تتحدث مصادر عن إصرار رئيس الجمهورية على الادعاء على سلامة، تنفي مصادر المجتمعين تدخّل رئيس الجمهورية في ذلك مؤكدة أنّ الاجتماع حصل قبل آخر اجتماع للحكومة. وسألت: «لو كان إصرار الرئيس على الادعاء صحيحاً، لماذا لم يحصل الادعاء في اليوم التالي؟».
أما شكل الادعاء وطريقته، فقد كانا في عهدة عويدات الذي كانت أمامه عدة خيارات. وفيما تردد أنّه لم يطلب من المحامي العام التمييزي جان طنوس الادعاء خشية أن يذهب الأخير إلى طلب توقيف سلامة فوراً ومنعه من دخول المصرف المركزي، تتحدث مصادر مطلعة عن تجنّب عويدات الطلب من طنّوس ذلك كي لا يظهر كمن يتهرّب من الادعاء بنفسه لكونه هو من كلّف إجراء التحقيق. وتشير المصادر إلى أن عويدات ناقش الملف مع إبراهيم الذي اعتذر عن عدم تولّيه انطلاقاً من حسابات سياسية وشخصية. كما أثار إبراهيم المسألة من زاوية سياسية معتبراً أنه في ظل وجود تغطية مسيحية لسلامة من البطريرك، فإن من غير المنطقي أن يطلب الى قاضي شيعي الادعاء. وأثار مخاوف موجودة لدى رئيس مجلس النواب نبيه بري من أن الادعاء الذي يفترض أن يسبق إقالة سلامة من دون وجود تفاهم، سيؤدي إلى مشكلة في سعر الصرف. إضافة إلى أنّ بري لا يريد أن يظهر الأمر بأنّ الشيعة يسعون وراء حاكمية المصرف لكون نائب الحاكم الأول الشيعي وسيم منصوري هو من سيتولى المسؤولية الى حين تعيين بديل، وأنه يفضل الاتفاق على تعيين بديل من سلامة ثم إقالته والادعاء عليه.
ترافق ذلك كله مع وصول القاضي طنوس إلى نهاية التحقيق في ملف سلامة. وقد أبلغ عويدات عون وميقاتي بأنّ الأمور تتطور سريعاً في أوروبا، وأن وفداً قضائياً فرنسياً برئاسة قاضية فرنسية سيصل الى بيروت قريباً جداً، وسيطلب معلومات ومعطيات مفصّلة حول ملف رياض وشقيقه. وقال عويدات إنه أبلغ الفرنسيين أنه مستعد للتعاون على قاعدة تبادل كامل للمعطيات. ولفت إلى أن الفرنسيين يشكّكون في المعطيات التي وردتهم من سلامة لأن الأخير كشف عن التحويلات الصادرة من حساب شقيقه مع تفاصيل تواريخها وحجمها، لكنه رفض الكشف عن هوية الأشخاص الذين حوّلت الأموال لهم في الخارج. وتؤكد مصادر مطّلعة على التحقيقات أنّ الكشوفات المسلّمة إلى القضاء غير كاملة. وقد برّر محامون على صلة بسلامة الخطوة بأن رفع السرية قائم عن المشتبه فيه أي رجا، وليس عن الآخرين. وبالتالي فإن المعطيات تكشف عن رجا وليس عمّن تعامل معهم، سواء في لبنان أو خارجه. غير أنّ مصدراً قضائياً أكد أنّ هناك لغطاً باعتبار أنّ رفع السرية لا يكون عن شخص باسمه، وإنما على حساب. ولدى رفع السرية يكون ذلك عن المرسل الى هذا الحساب والمرسل إليه منه. ولفت المصدر القضائي إلى أنّ الحديث عن أسماء هو تذاكٍ من قبل سلامة، لافتاً إلى أنه لا وجود لسرية مصرفية على اسم رجا سلامة، إنما السرية على حساب رجا سلامة.
في المحصلة، أصر عويدات على خطوة الادعاء لأن المعطيات الموجودة كافية. وقال إنه تسلم من طنوس تقريراً يتضمّن أسباب الادعاء مع مرفقات تفصيلية تكشف عن ضرورة الذهاب الى الادعاء فوراً. كما تبيّن أن المراسلات حول حسابات رجا ليست واضحة جميعها، وهناك ملفات تم شطبها وأسماء تم حذفها. ولدى القضاء شكّ بسلامة الحسابات لجهة أن يكون هناك مصرف قام بالتلاعب بها، فضلاً عن أن رياض سلامة لا يزال يرفض إعطاء كشف عن حساباته في مصرف لبنان.
وأبلغ عويدات ميقاتي وعون أنه عير قادر على تأخير الخطوة لأن الأوروبيين سيقومون قريباً بخطوات على هذا الصعيد، وربما يتّهمون عويدات نفسه وليس كل القضاء بعرقلة العمل من خلال منع الادعاء أو منع القضاء الأوروبي من القيام بعمله في لبنان، إذ إنّ الأوروبيين يعتبرون أن القاضي إذا لم يستخدم صلاحياته فإنه يُعرقل سير العدالة، فضلاً عن أن عويدات نفسه مقتنع بضرورة وجدوى الادعاء على سلامة، مع أنه كان يفضّل أن يبادر مجلس الوزراء الى خطوة إقالته وتعيين بديل له لضبط نتائج قرار الادعاء عليه.
وتكشف المصادر أنّ عويدات أبلغ الرؤساء أن الخطوات القضائية قد تصل الى حدود طلب إحضار سلامة الى التحقيق، وبالتالي فإنّ احتمال توقيفه قويّ جداً لارتكابه جنايات.
وفيما تحدثت مصادر عن اجتماع عقد قبل أيام في العاصمة الفرنسية بمشاركة لبنان، جرى خلاله تبادل المعطيات حول ملف التحقيق في قضية سلامة وشقيقه، وتم إطلاع الجانب اللبناني على خطوات مرتقبة من جانب الجهات القضائية الأوروبية، إلا أنّ مصدراً قضائياً رفيعاً نفى ذلك مؤكداً أنه «لن يُعقد أي اجتماع الآن لأننا أنهينا الملف الذي لا يمكن المساس به قبل أن يتسلّمه قاضي التحقيق».
تجدر الإشارة إلى أن الادعاء لا يقتصر على رياض ورجا وماريان الحويك، بل يشمل مصارف لبنانية وأجنبية في سويسرا وفرنسا وكذلك شخصيات مشتبه في تورطها بعملية الاختلاس وتبييض الأموال.