| مصعب أيوب
عندما نقف أمام قامة أدبية وشعرية مهمة كأبي العلاء المعري فإن ذلك حتماً سيحملنا مسؤولية كبيرة في تقصي واستبطان ومعرفة وتحري كل ما كان يرنو إليه من أجل اكتشاف لب أفكاره والإلمام بكل ما وصل إليه وسبر أغواره وعمقه وامتداد آفاق أفكاره من أجل فهم جزء مما كان يقصد، فأعماله أصبح لها تفرعات كثيرة ولعل أهمها عقله وشكه، فالعقل عنده وسيلة والشك سبيل، وهو ما طعن به كثيرون وبعقيدته وبفلسفته، إلا أنه قدم منتجاً مهماً في الشعر والفلسفة واللغة.
زاهد في حياته
يقدم الكتاب الصادر عن اتحاد الكتاب العرب تحت عنوان: «المعري بين الإرث والأثر» أو أبوة متجددة دراسة للوقوف عند دور العقل والشك في حياة وأفكار وكتابات المعري وما يتفرع عن ذلك من عمق فكري وآفاق جديدة ومنهج سلوكي، إضافة إلى التطرق إلى موقفه من الحياة ومغرياتها ومحاسنها وعلاقته بما حوله، وهو بحسب محمد خالد عمر «مؤلف الكتاب» يحتاج منا إلى دراسات عميقة واستقصاءات واستنتاجات ومقاربات ومقارنات فيما أنتجه المعري شعراً ونثراً، فهو البليغ الفنان في رصف مفرداته البديعة ونسج الجزل من الكلام، فاستطاع المعري أن يبهر الجميع ويظهر قدرة الإنسان على الإبداع والتجديد ونجح باتخاذ قوة العقل والشك دافعاً لانطلاقته.
وقد وقف المعري موقف الرافض للحياة ومتعها وملذاتها معتبراً أن محاسبة الفاسدين ومساعدة المحتاجين والتبرع للفقراء ونصرة المظلومين من أهم واجباته.
معرة النعمان
بعد المقدمة والوقوف عند دور المعري في الحياة الثقافية والفكرية وما قدمه وما أغنى به المكتبة العربية وبعد الوقوف عند نتاجه الشعري والنثري والفلسفي والثقافي والأدبي، يتفرع الكتاب في عدة أبواب ويروي كل واحد منها فصلاً معيناً عن حياة المعري وشعره وما ترك، ففي الباب الأول يعرفنا المؤلف بالمعري والمعرة ونشأته الأولى ومسكنه وعائلته وتعليمه والمؤثرات التي أغنت معارفه والمتغيرات الداخلية والخارجية التي أسهمت في تكوين شخصيته، مؤكداً أن المكانة الرفيعة التي تكتسبها الأمكنة والبقاع الجغرافية ما هي إلا بسبب من أقام أو دفن فيها، كما تطرق إلى المعرة كمنطقة جغرافية واصفاً تضاريسها ومقدماً بيانات تفصيلية عن حدودها ومساحتها ومناخها العام وتعدادها السكاني والنواحي التي تتبع لها.
مع بساتين الفكر
في الفصل الثاني من الباب الأول يعرفنا المؤلف بأبي العلاء المعري وبنسبه وعائلته وبتعليمه ويقدم لنا وصفاً تقريبياً لقامته وقوامه فهو قصير القامة ونحيف الجسم ومشوه الوجه بعد أن أصابه الجدري في عمر أربع سنوات وذهب ببصره، ويضيف عمر أن المعري ينحدر من أكثر القبائل العربية شجاعة وعائلته تحديداً اشتهرت بأنها عائلة علم ورياسة، إضافة إلى براعتها في الشعر والأدب والحكمة، وعلى ذلك نشأ المعري وبرغم إعاقته إلا أنه احتك بالأدباء والفقهاء وصار نداً لهم، فبات نهراً متدفقاً في بساتين الفكر والمعرفة، وكان رجلاً عفيفاً قوي الإرادة متواضعاً ويطمح للتفرد، إضافة إلى حدة ذكائه وقد عرف عنه قدرته على حفظ ما يسمع منذ المرة الأولى، وأشار المؤلف إلى أن المعري قصد بغداد في شبابه ليكون مخالطاً أكثر للغويين والفقهاء والعلماء ويبادلهم الآراء والتطلعات، إلا أن كثيرين حسدوه على علمه وفطنته وهموا بالتخلص منه وتوجهوا إليه بالإساءة وهو ما جعله يغادر بغداد وبالتزامن مع وفاة أحد أفراد عائلته قرر العزوف عن الدنيا بعد اقتناعه بأنه شر مطلق واعتزل في بيته حتى الوفاة.
وفي الباب الثاني من الكتاب يطرح لنا المؤلف وصفاً إنسانياً للمعري مبيناً أنه ذو حضور متميز وزاهد في حياته، لم يتناول اللحم ولم يتزوج النساء ظناً منه أن إنجاب الأطفال سيئ ومضر بهم، ولذلك أوصى أن يكتب على قبره «هذا ما جناه أبي ولم أجنِ على أحد»، وأفاد بأنه كان ممانعاً للتكسب بالشعر ولم يمتدح الحكام ولم يتودد لسلطان، كما يحوي الكتاب بعض النصوص التي كتبها النقاد ومن شككوا بنزاهة المعري في ذلك وهو ما عارضه طه حسين.
تناقضات
كما أن الناس انقسمت حول فلسفة أبي العلاء إلى ثلاثة مواقف، الأول الذي بدأه المؤلف بمثال لطه حسين الذي قدم دراسة حول المعري مفادها أنه فيلسوف فذ التزم ما ألزم به نفسه في سيرته ولفظه وحرم الحيوان والتزم النبات، ويؤكد حسين فلسفة المعري بالقول: الحق أن من يدرس نتاج أبي العلاء نثراً وشعراً يجد أنه في آرائه ومعتقداته مطلع على الفلسفات بكل أشكالها، في الوقت الذي لم يتبن فيه فلسفة واحدة بذاتها وإن ظهر تأثره بجزئيات انتقائية من هنا وهناك منها، ويعد طه حسين من أهم دارسي أدب أبي العلاء حديثاً ولكنه حمل بعض التناقضات في مواقفه وكأن حسين يتدرج في أحكامه عن المعري، فمن جهة نراه يعترف بمكانته الفلسفية ومن جهة ثانية يدمجها بإبداعه الأدبي.
وأما الموقف الثاني فيرفض أن يكون المعري فيلسوفاً ولكن أنصاره يقرون بأن أدبه ومؤلفاته فيها مسحة فلسفية شاملة لفلسفات عدة، الموقف الثالث يمثل المواقف المتبادلة بين القبول والرفض.
العقل والشك
الباب الثالث من الكتاب يبحث فيه المؤلف مشكلتي العقل والشك عند المعري، ومواقف الباحثين من تلك الإشكاليتين، فاستطاع المعري أن يحرك العقل ويحرض الفكر لتحريره، فدعا للتحرر من القيود الدينية وانقسمت حوله الآراء إلى معارض إلى حد التكفير ومحب إلى حد التبجيل، والباب الرابع يقدم رؤية لعقيدة المعري ودينه ومرجعيته ومواقف الدارسين المتباينة والمختلفة، والسبب وراء اتهامه في دينه وعقيدته.
المعري شاعر وفيلسوف فذ ولا يمكن أن تفيه حقه مئات الأبحاث والدراسات، ولن تكفي مادة صحفية واحدة للحديث عنه، وأظن أن المؤلف الذي بين يدينا فيه من المتعة الشيء الكثير ولا بد من قراءته للتشبع والغوص في فكر وفلسفة هذا الرجل الفريد.
سيرياهوم نيوز1-الوطن