الدكتور طارق ليساوي
خلصت في مقال “على خلفية زيارة رئيس الحكومة الإسبانية “بيدرو سانشيز” لمدينة سبتة المحتلة: هل اعترفت حكومة أخنوش بالسيادة الاسبانية على سبتة ومليلية المغربيتين؟” إلى أن الوضع في المغرب لا يدعو إلى التفاؤل والبلاد في حاجة ماسة إلى عقد اجتماعي جديد يحدد العلاقة بين الحاكم و المحكوم، فالدولة المغربية التي انبثقت عن اتفاقية “اكس ليبان” فقدت جزءا كبيرا من شرعيتها، فاستقلال البلاد دفع ثمنه كل المغاربة لكن المكاسب جناها البعض، وجزء منهم للأسف، كانوا خداما ومتعاونين مع المستعمر الفرنسي والاسباني. ومع ذلك، استمروا في تكديس الثروات واحتكار مناصب القرار لهم ولذرايتهم، نقول هذا الكلام لان الدولة التي لا تحمي مواطنيها و إقليمها دولة محدودة السيادة وشرعيتها منقوصة … لازالت مدينتي سبتة ومليلية محتلتين وجهود حكومة إسبانبا تتحرك بوثيرة سريعة لتثبت واقع الاحتلال و شرعنته و الدولة المغربية في صمت عميق، والشعب يتابع سياسات الإلهاء الممنهج و لا يعلم أن الوطن يباع و تغير جغرافيته وديموغرافيته..
وأعيد التأكيد مجددا، أن الحلول الفردية انتهت و لابد من تفعيل قانون الكم و البحث عن أرضية للتغير الجماعي و بتكاثف جهود الأغلبية، صحيح أن التغيير يحتاج لنخب تنظر وترسم خريطة الطريق، لكن مهما كانت عبقرية الاشخاص و إمكانياتهم فهم عاجزين عن تحقيق أي تأثير ما لم تكن بيئة حاضنة… لو أحضرنا أرفع العقول في العالم وعبر التاريخ و في شتى الميادين، فإنها عاجزة عن تحقيق تغيير الأوضاع القائمة في عالمنا العربي ما لم تتحرك الشعوب و تنتفض لتغيير واقعها …
نحن لن نخترع عجلة التقدم والتنمية بل كل دول العالم المتقدم والنامي مر من الظروف التي نحن فيها الأن، وأمامنا نماذج لا تعد ولا تحصى وأقرب النماذج لنا ثقافيا وتاريخيا طبعا النموذج الماليزي، الذي صاغه وأثر فيه “رجل بأمة” محمد مهاتير، كذلك النموذج التركي الذي لعب فيه أربكان دور بالغ الأهمية، والنموذج الصيني الذي لعب في شياوبنغ دور محوري..
وقبل ذلك تجارب دول أوروبا الشرقية وباقي دول أمريكا اللاتينية، وحاليا أوغندا وأثيوبيا ودول شرق وغرب إفريقيا التي تمشي بشكا حثيث بإتجاه الترسيخ للديمقرطة والتنمية… وكلمة السر هي الديمقرطة أي ربط المسؤولية بالمحاسبة بشكل حقيقي.. من هنا تبدأ كل النجاحات!!
وما يقال على وطني المغرب يشمل باقي بلدان المنطقة، نحن أما موجة انتفاضات قادمة لا محالة، ومن الخطر الاستمرار بنفس السياسات، اليوم بلداننا مطالبة بتعديل أولوياتها الاقتصادية والأمنية والزراعية.. أصبح من الضروري تبني الإجراءات والتدابير التي تبناها يوسف عليه السلام لإدارة أزمة السبع سنوات العجاف..
للأسف كثير من المسلمين وخاصة في العالم العربي لا يؤخذون من الإسلام إلا القشور، الشكل لا الجوهر، المبادئ العملية التي وضعها الاسلام في جانب الإقتصاد والإدارة لم تصل لها البشرية إلا بعد جهد جهيد، ونحن على أبواب مجاعة محتملة، علينا الاستفادة من منهجية يوسف عليه السلام في إدارة الأزمة الغدائية الحالية و التي ستزداد سوءا في الأشهر القادمة…
وسورة يوسف عليه السلام نموذج حي لإدارة الأزمة، و بداية إدراك الأزمة المستقبلية بدأ برؤية للملك قال تعالى في محكم كتابه؛” وَقَالَ ٱلْمَلِكُ إِنِّىٓ أَرَىٰ سَبْعَ بَقَرَٰتٍۢ سِمَانٍۢ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنۢبُلَٰتٍ خُضْرٍۢ وَأُخَرَ يَابِسَٰتٍۢ ۖ يَٰٓأَيُّهَا ٱلْمَلَأُ أَفْتُونِى فِى رُءْيَٰىَ إِن كُنتُمْ لِلرُّءْيَا تَعْبُرُونَ” ..
ومن خلال رؤية الملك تنبأ يوسف عليه السلام من خلال تفسيره للرؤية ، تنبأ بدورتين اقتصاديتين، “دورة رواج” (سبع بقرات سمان) تتبعها “دروة ركود”(سبع بقرات عجاف)، ووضع الخطط المناسبة لمواجهة دورة الركود القادم، وتبعا لذلك، أدار بكفاءة موارد “دورة الرواج” عبر تبني سياسات إدخارية حكيمة، مع الحرص على تقليص الإنفاق الأني، إلى أقصى حد ممكن مع التوسع في بناء البنية التحتية التي تساعد على إدارة أزمة “دورة الركود”، فقد حرص على بناء الصوامع لتخزين الحبوب بسنبله أي بدون درس و في ذلك حكمة ربانية، لأن هذا الأسلوب يمنع من فساد الحبوب و أيضا للإنقاذ الدواب أيضا من خلال إستغلال التبن كعلف للمواشي.. ولولا سياسة التقشف والتوفير لكل دورة ووضع الخطة و العمل على تنفيذها، لهلك الناس في دورة الركود وحلت بالبلاد كارثة عظيمة، لأنها كانت ستتوسع في الإنفاق وتسرف في الاستهلاك مع ارتفاع الفوائض في دروة الرواج…
ويبدو لنا من خلال السورة الكفاءة الإدارية ليوسف عليه السلام، لكن الذي لا نركز عليه كثيرا هو دور الملك “رأس السلطة”، فالملك توفرت لدية الإرادة السياسية في الإصلاح فسعى إلى يوسف صاحب الاختصاص، للاستعانة بعلمه وكفاءته ومّكنه من حل الأزمة، فهم الملك الأول المصلحة العامة…وبعدها قال يوسف عليه السلام “اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم”، والمقصود بعليم كما فسره بعض المفسرين المعاصرين هو علم التنبؤ بالمستقبل، التنبؤ الاقتصادي على وجه الخصوص.. فصلاح الرأس يقود إلى صلاح باقي الجسم الاجتماعي.. ولعل هذا ما أشار إليه رئيس وزراء سنغافورة السابق “لي كوان يو” ..
ونحن نتابع أوضاع بلداننا نتساءل ألا يدرك صناع القرار في هذه البلدان حجم المخاطر التي ستعصف من دون شك بكراسيهم و مكاسبهم؟ لماذا لم يستفيدوا من موجة الربيع العربي التي عصفت بحكام عمروا لعقود ، و كانت نهايتهم مأساوية؟
للأسف مجتمعاتنا العربية تواجه تحديات مصيرية و مخاطر كبرى تهدد وجودها و كينونتها ، و بعيدا عن الاهتمام بالوضع الاقتصادي و الاجتماعي و غياب أو ضعف الحكم الصالح ، فهناك تحديات بنظري ينبغي وضعها تحث المجهر، لأنها لها تأثيرات مستقبلية بالغة الخطورة و التأثير..
ليسمح لي القارئ الكريم إلا إثارة موضوع له صلة بأحد أهم مكونات الدولة و أعني الشعب.. فهؤلاء الحكام لا يدركون بأن سياساتهم تقود إلى التأثير سلبا، على المديين المتوسط و البعيد، على أهم مكون في الوطن “البشر”، والعنصر المحوري في البناء المجتمعي “بناء الأسرة و ضمان استمرارية النسل”.. فبلداننا تشهد هجرة متصاعدة نحو الخارج وخاصة الشباب، هذا في مقابل استقطاب مهاجرين من البلدان الافريقية جنوب الصحراء.. وهذا الوضع أصبح يثير حزمة من المخاطر المستقبلية التي ينبغي التعامل معها بموضوعية بعيدا عن العنصرية ..
فعندما نطلع على الاحصائيات الرسمية في المغرب وباقي البلدان المغاربية والعربية، علينا التوقف عند حجم التحولات الديموغرافية والسيسيولوجية والسيسيوإقتصادية التي تشهدها المجتمعات العربية، ولتوضيح ذلك سوف نعتمد الاحصائيات في المغرب، ويمكن تعميها لتشمل باقي البلدان المغاربية والعربية مع حفظ بعض التغيير الطفيف بين البلدان النفطية وغير النفطية …
فالإحصائيات الرسمية الأخيرة في المغرب، تظهر أن حالات الطلاق تتزايد بشكل مثير للقلق ، لاسيما بعد التعديلات التي شملت مدونة الأسرة.. فقد شهدت مدينة الدار البيضاء وحدها 15956 حالة طلاق في العام 2020..وشهد عدد قرارات الطلاق النهائية الصادرة عن المحاكم زيادات مقلقة، إذ انتقل من 44408 عام 2014 إلى 55.470 عام 2019. فيما بلغ عدد حالات ”الطلاق”، وهو فسخ شرعي للزواج جاء أصلاً بقرار من الزوج فقط، 26914 حالة..وفي مجموع حالات الطلاق بالمغرب، انتقل العدد من 26914 حالة في 2004 إلى 25852 في 2018، وارتفع إلى 55470 حالة في 2019.
كما كشف تقرير أنجزه المرصد الوطني للتنمية البشرية وهو مؤسسة حكومية مغربية، وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي، عن أرقام جديدة تهم الحياة الاجتماعية والاقتصادية للشباب المغربي لا سيما بعد الأزمة الناتجة عن جائحة كورونا..
والوثيقة كشفت أنه على الرغم من أن الشباب المغاربة يهتمون بفكرة تكوين أسرة، إلا أنه على مستوى الأرقام تم رصد عزوفهم عن الزواج، إذ انتقلت النسبة من 42 بالمئة عام 2011 إلى 70 في المئة عام 2019.
وبحسب الوثيقة ذاتها، يظهر أن الشباب هم الأكثر تعرضا للأزمة الحالية، موردة أن فئة الشباب “إحدى الفئات الاجتماعية في المغرب التي تواجه تحديات سياسية واقتصادية واجتماعية حقيقية”.و ظاهرة العزوف عن الزواج اتخذت منحى تصاعديا خلال السنوات الأخيرة، لا سيما بين سنة 2011 و2019، ولا يزال التصاعد مطّردا إلى يومنا هذا.
و عزوف الذكور عن الزواج يعود لأسباب مختلفة، لكن هذا العزوف عمق من ظاهرة “العنوسة” و هي مشكلة اجتماعية خطيرة تهدد المجتمع المغربي، حيث إنَ هذه المشكلة لم تقف عند حد أنَها تتسبب في تأخر سن الزواج فقط ، بل إنها تمثل أيضا معولا لهدم القيم الأخلاقية للمجتمع المغربي بشكل عام، من خلال زيادة نسبة الانحرافات الجنسية والشذوذ، والقضاء تدريجيا على مفهوم الأسرة، بل والأخطر من كل هذا إنخفاض مقلق في معدل الخصوبة… فقد أشارت المندوبية السامية للتخطيط في إحصائيات لها، أن الأرقام الرسمية الصادرة في هذا الصدد أصبحت مقلقة، ف”العنوسة” أضحت تهدد الهرم السكاني للمغرب، وساهمت في انخفاض الخصوبة في السنوات الأخيرة، فأكثر من 60 في المائة من المغربيات من بين 20 و24 سنة غير متزوجات، وأكثر من 28 في المائة من المغربيات ما بين 30 و34 سنة “عانسات”. فالأشخاص غير المتزوجين يقضون بقية حياتهم عزابا، كما جاء في أرقام المندوبية السامية للتخطيط. فالعنوسة تسجل في وسط الفتاة المتعلمة وغير المتعلمة، العاملة في القطاع الخاص وحتى الإدارات العمومية، هذه الأخيرة تسجل نسبة 38.51 من الموظفات غير المتزوجات، مع العلم أن النساء العاملات في القطاعات الحكومية لا يمثلن سوى 7.7 في المائة من مجموع العاملات في المغرب…
و”قضية العنوسة” متداخلة ومتشابكة ومتشعبة، تدخل فيها عوامل كثيرة اقتصادية بالدرجة الأولى ثم قانونية واجتماعية و نفسية.. والمصيبة الكبرى أن للعنوسة أعراضا، منها القلق والتوتر والأرق والعصبية والاكتئاب، وأخيرا هو المهم أنَ 57 في المائة من البنات العوانس لا يستمر زواجهن، لو تزوجن في سن متقدمة، لأن قدراتهن العصبية والنفسية تكون قد تشكلت بشكل لا يسمح بالاستمرار…
وتؤثر العنوسة في البناء الديمغرافي للمجتمع، بمعنى أنَ عدم الإقبال على الزواج يؤدي إلى خلل في النمو السكاني كنقص أو زيادة السكان من ناحية، أو زيادة الإناث عن الذكور أو العكس من ناحية أخرى… وليس من شك أنَ إشكالية عزوف الشباب المغربي عن الزواج، قد أفرز ظاهرة نفسية واجتماعية خطيرة، تتجلى في ظاهرة التحرش والاغتصاب الجنسي وتوابعها كالانحراف الجنسي وانتشار الأمراض الجنسية والفسق والفجور والزواج السري…، و هذه كلها ظواهر تقود بالتبعية إلى تفكك الأسرة وهدم قلاعها..
وهذه الظواهر ليست حكرا على المغرب بل تشمل أغلب البلدان العربية، و هذا الوضع يقتضي الوقوف عند هذه الظواهر الاجتماعية الخطيرة والتي تنذر بتفجر المجتمع و انحلاله وتفسخه.. والأسباب عديدة و متشعبة، منها قوانين الأسرة وتغير القيم الاجتماعية والأخلاقية، فمثلا أصبح الطلاق مسألة عادية خلافا لسابق، هذا إلى جانب الأزمة الاقتصادية والاجتماعية الخانقة..
ومن التأثيرات المستقبلية لهذه الظواهر الاجتماعية السلبية إنخفاض الخصوبة، وهو مؤشر خطير جدا ، فقد أظهرت نتائج تقرير صادر عن المندوبية السامية للتخطيط في العام 2021 أن خصوبة الفئة العمرية من 15 إلى 19 سنة تراجعت من 23.0 في المائة سنة 2014 إلى 19.3 في المائة سنة 2019، بينما كانت النسبة في حدود 19.1 في المائة سنة 2004.
وتراجعت خصوبة الفئة العمرية ما بين 20 و 24 سنة من 99.0 في المائة سنة 2004 إلى 93.0 في المائة سنة 2014، إلى 86.5 في المائة سنة 2019؛ بينما تراجعت خصوبة الفئة من 25 إلى 29 سنة، خلال الفترة نفسها، من 126.6 في المائة إلى 112.2 في المائة إلى 108.5 في المائة على التوالي.
وفي المنحنى نفسه سار معدل خصوبة الفئة من 30 إلى 34 سنة، خلال الفترة المذكورة، حيث انخفض هذا المعدل من 81.7 في المائة إلى 72.0 في المائة، إلى 70.2 في المائة، حسب ما جاء في تقرير المندوبية السامية للتخطيط المعنون بـ”المرأة المغربية في أرقام.. 20 سنة من التطور”.
فما يحدث هو نوع من الإبادة للجنس البشري، وهم ما يدفعني إلى تصديق و التعامل بجدية مع ما أصبح يعرف بنظرية “المليار الذهبي”، فكل هذه الجهود من أوبئة ، ودعم للمثلية و تدمير الفطرة الإنسانية تصب في مجرى واحد خفض عدد البشر.. وهذا التوجه العام لا يمكن فصله عن المشروع الصهيو-شيطاني و التمهيد لخروج المسيح الدجال ..
وفي الختام، هدفي من إثارة هذه القضايا هو دعوة الجمهور إلى التفكير وربط هذه الأحداث والمعطيات بشكل عقلاني للوصول إلى استنتاجات منطقية تساعد في فهم الواقع و الحاضر و استشراف المستقبل.. و سأحاول إن شاء الله تعالى توضيح هذا الأمر في مقال موالي، وشكرا جزيلا على تفاعلكم وملاحظاتكم القيمة وأعتذر عن عدم التفاعل المباشر مع قراء رأي اليوم بشكل منتظم.. والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون..
إعلامي وأكاديمي متخصص في الاقتصاد الصيني والشرق آسيوي، أستاذ العلوم السياسية والسياسات العامة..
سيرياهوم نيوز 4_راي اليوم