إذا كانت أوروبا اليوم لا تسمح بأن يذهب التوتر بين المغرب والجزائر إلى حد الحرب خشية انعكاساتها على دولها، فإن هذا الموقف مرشح ليتغير نتيجة تنامي المد اليميني المتطرف ذي النزعة العنصرية والنيوصليبية.
إذا كانت الدولة القطرية أداة لتوحيد الأوروبيين اقتصادياً تحت مظلة الاتحاد الأوروبي، وأمنياً وعسكرياً تحت لواء الناتو، فإنها في العالمين العربي والإسلامي كانت ولا تزال أداة لتفتيت وحدة الشعوب والأوطان.
يوم 23 تشرين الثاني/نوفمبر 2024، احتضنت الجزائر العاصمة أول يوم للريف تحت شعار “جمهورية الريف والحق في استرجاع استقلاله”، نظمه انفصاليون ريفيون مقيمون بأوروبا. ويُعَدّ هذا أول نشاط يقوم به مكتب جمهورية الريف في الجزائر منذ افتتاحه في آذار/مارس 2024 .
يرى المتابعون للشأن المغاربي أن سماح حكومة الجزائر بهذا النشاط، هو رد فعل غاضب وغير محسوب من طرفها على ما بدر من ممثل المغرب في الأمم المتحدة السفير عمر هلال، الذي تتهمه بدعم تقرير مصير “شعب القبائل”، وهو ما تسبب بقطع العلاقات بين البلدين في آب/أغسطس 2021. وعلّق رئيس الحكومة المغربي، سعد الدين العثماني، وقتها، وقال إن هذا الموقف كان “احتجاجياً”، ولا يعبّر عن الموقف الرسمي المغربي، لكن الجزائر رفضت تلك التبريرات.
نحن إذاً إزاء سلسلة من المواقف الغاضبة وردود الأفعال المتشنجة التي قد يكون لها نتائج وخيمة على وحدة البلدين وأمنهما. لكن ما يحز في النفس ويدعو إلى الأسف، هو وقوف النخب السياسية والقوى الوطنية وفعاليات المجتمع المدني تتفرج على لعبة الروليت الروسية القاتلة التي تلعبها الحكومات، ولا يحرك هؤلاء ساكناً تجاه هذه التصرفات غير الحكيمة التي قد تضع المنطقة على حافة الحرب. المفترض اليوم بالنخب المغاربية، وخصوصاً المغربية والجزائرية، أن تبادر إلى وقف هذه الشطحات الدبلوماسية وإدانتها، بالقدر الذي يتوجب عليها العمل على إسقاط كل المبادرات التطبيعية مع الكيان العنصري الإرهابي الصهيوني الذي لا يحل في منطقة إلا وجلب معه الخراب والحروب إليها.
القوى العالمية والمنطقة المغاربية
إن الخطأ في تقييم التحولات الجيواستراتيجية الجارية، وسوء فهم نيات القوى العالمية تجاه المنطقة المغاربية، وسوء تقدير المخاطر الصهيواستعمارية عليها، ستكون لها نتائج سلبية. فإذا كانت أوروبا اليوم لا تسمح بأن يذهب التوتر بين المغرب والجزائر إلى حد الحرب خشية انعكاساتها على دولها، فإن هذا الموقف مرشح ليتغير نتيجة تنامي المد اليميني المتطرف ذي النزعة العنصرية والنيوصليبية. أما روسيا والصين، اللتان تكتسحان بهدوء القارة الأفريقية، فلا ترغبان في هذا الأمر بسبب ما قد يترتب عنه من أضرار لمصالحهما الاقتصادية والجيواسترتيجية.
الأمر مغاير بالنسبة إلى أميركا و”إسرائيل”، فهما لن تترددا في تغذية الحرب متى أتيحت لهما الفرصة، إذ ستكون أقصر طريق لتنفيذ مخططاتهما في تنزيل سايس بيكو جديدة، عبر استغلال الاختلافات العرقية والنزاعات الحدودية والأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية الصعبة لدول المنطقة، كمقدمة لتفتيتها إلى دويلات وكيانات.
مخطط التفتيت لمن يجهله ابتدأ التفكير فيه منذ تأسيس الكيان الصهيوني، بحيث وضعت لبناته الأولى من طرف بن غوريون وخبراء الأمن القومي الأميركيين والبريطانيين عام 1953. وظهر بوضوح أكبر عام 1982 (عام احتلال بيروت)، من خلال مقال كتبه الموظف السابق في الخارجية الإسرائيلية، عوديد عينون Oded Yinon، نُشر في مجلة Kivunim عدد 14 شباط/فبراير، قال فيه: “تُفتح اليوم أمامنا إمكانات كبيرة من أجل قلب الأوضاع رأساً على عقب، هذا ما يتوجب علينا إنجازه في العشرية المقبلة، لتصبح “إسرائيل” قوة عظمى إمبريالية وتبقى في الوجود، وإلا فإن مصيرها إلى زوال. يجب أن تعمل “إسرائيل” على تفجير الدول العربية وتفتيتها إلى دويلات صغيرة عاجزة وغير قادرة على مواجهة القوة العسكرية الإسرائيلية”.
في العام نفسه (أي 1982) كلف البنتاغون برنارد لويس، مستشار إدارتي بوش الأب والابن، والذي يُعَدّ أهم منظري السياسة الأميركية الشرق الأوسطية وملهم المحافظين الجدد، وَضْعَ مشروع يهدف إلى تفتيت الدول العربية والإسلامية الى دويلات عرقية ودينية ومذهبية وطائفية. وهو ما تم في عام 1983، حينما قدم برنارد لويس مشروعه إلى الكونغرس الذي وافق عليه في جلسة سرية بالإجماع وتم اعتماده وإدراجه في ملفات السياسة الأميركية الاستراتيجية لأعوام مقبلة
في مطلع أكتوبر 2013 ألقى الجنرال عاموس يادلين، رئيس الاستخبارات الحربية الإسرائيلية السابق، محاضرة في معهد دراسات أبحاث الأمن القومي التابع لجامعة “تل أبيب”، قال فيها: “أما في شمالي أفريقيا، فتقدمنا إلى الأمام كثيراً في نشر شبكات جمع المعلومات في كل من ليبيا وتونس والجزائر والمغرب، والتي أصبح فيها كل شيء في متناول أيدينا، وهي قادرة على التأثير السلبي أو الإيجابي في مجمل أمور هذه البلاد”. وعاد في مقابلة مع القناة السابعة الإسرائيلية ليؤكد “أن “إسرائيل” تتوفر في المغرب على شبكة تجسس وتخريب يمكنها، في حالة الحاجة، وبحسب الأوامر، أن تزعزع أمن المملكة واستقرارها”.
ضرورة إخراج الاتحاد المغاربي من غرفة الإنعاش
عندما تأسس الاتحاد المغاربي في مدينة مراكش يوم 17 شباط/فبراير 1989م، كان من ثمراته وقف إطلاق النار بين المغرب وجبهة البوليساريو في 6/9/ 1991، وهو ما مكن المغرب والجزائر من خفض التوتر بينهما . لكن في 24 آب/أغسطس من عام 1994 وقعت عملية إرهابية في مدينة مراكش. فاتهم المغرب المخابرات الجزائرية بالوقوف وراء العملية وأغلق الحدود، وردت الجزائر بتدابير مماثلة متهمة الأجهزة الأمنية المغربية بالوقوف وراء العملية تنفيذاً لمخطط فرنسي . ومنذ ذلك الحين ظلت الحدود المغربية الجزائرية مغلقة وظل معها الاتحاد المغاربي مجمَّداً.
في زمن بدأت تلوح بوادر نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب، فإن من الطبيعي أن تحظى المنطقة المغاربية باهتمام القوى العظمى بحكم قربها من أوروبا شمالاً، والصحراء الكبرى ومنطقة الساحل جنوباً؟، وهو ما يرتب على المغرب العربي تحديات عظمى
المغاربيون، على رغم أنهم في مفترق طرق، لكنهم يعون تلك التحديات، ويعرفون أهمية أفريقيا بالنسبة إلاى القوى العظمى التي تتسابق على كسب النفوذ في هذه القارة. لهذا، تقتضي التحولات الجيواستراتيجية والجيواقتصادية التي تحيط بالمنطقة والقارة، مواجهة مغاربية مشتركة لا منفردة، عبر تعاون وتكامل يؤهلانها للمواجهة ولمكانة تتبوئها، ودور تضطلع به في النظام العالمي قيد التشكل.
من المؤكد ان الطريق السالك الذي قد يجعل دول شمالي أفريقيا في صلب النظام العالمي المرتقب، وشركاء فاعلين فيه، هو إعادة الحياة إلى الاتحاد المغاربي بكل دوله: المغرب والجزائر وتونس وليبيا وموريتانيا، لبناء نظام إقليمي على شاكلة الاتحاد الأوروبي أو الآسيان أو الميركاسور. فهذه الدول تمتلك – مجتمعة – كل متطلبات الإقلاع والنهوض: من ثروات طاقوية ومعدنية وفلاحية، وصناعة قابلة للتطوير، وموقع جغرافي متميز، وجيل شاب وطاقات بشرية واعدة، دياسبورا متميزة ورأسمال لا مادي. وأكاد أجزم بأن عودة الحياة إلى الاتحاد المغاربي ستساعد بشكل كبير كل جهود الانفتاح على أفريقيا وتعزز مكانة دوله عالمياً.
لكن عوضاً من التنسيق والتعاون في إطار الاتحاد المغاربي بما يخدم مصالح جميع دوله، كان هناك تنافس سلبي بين المغرب والجزائر، الدولتين اللتين كان من المفترض أن تكونا قاطرة هذا الاتحاد، بحيث إن كل تحرك قاري لإحدالهما كان يواجَه فوراً بتحرك معاكس من الدولة الأخرى. بدا هذا واضحاً خلال الحرب على الإرهاب بحيث سعت كلتا الدولتين لتقديم نفسها قوة إقليمية محورية قادرة على أن تكون شريكة للدول العظمى في الحرب ضد الإرهاب والجريمة المنظمة في الصحراء الكبرى ومنطقة الساحل.
التنافس والتسابق هذان بين البلدين، انعكسا سباقاً على التسلح بينهما لإثبات قدرتهما على التدخل خارج بلديهما ولتوجيه رسائل إلى بعضهما البعض، مفادها أنهما يملكان من التسلح – كميا ونوعيا – ما يجعل تفكير أحدهما في شن حرب على الآخر ضرباً من الجنون ومغامرة ستكون عواقبها خطيرة ومحفوفة بالمخاطر وغير مأمونة المآلات.
إن الوضع غير السويّ للعلاقات المغربية الجزائرية يساهم اليوم في خدمة عدد من الأجندات:
– أجندات الاستعمار والصهيونية والجهات التي تدور في فلكهما لتنفيذ مخططاتها في إعادة ترتيب دول المنطقة من خلال تأجيج النزعات البينية والصراعات الداخلية لتفتيتها وإعادة رسم خرائطها.
– أجندات التوجهات الانفصالية والإرهابية التي تسيء إلى التاريخ والوحدة والحاضر والمستقبل.
المؤكد أن مستقبل المنطقة المغاربية رهن التفاهمات الكبرى بين المغرب والجزائر في الدرجة الأولى. نعم، هناك خلافات حدودية بين البلدين من مخلفات الاستعمار يمكن حلها ديبلوماسيا، لكن ما يسمم العلاقة بينهما بشكل خاص منذ نصف قرن هو مشكلة الصحراء الغربية التي استرجعها المغرب عام 1975، ومن غير المعقول أن تبقى هذه القضية عقبة في البناء الوحدة المغاربية. وحتى بتأخر الحل النهائي لها ففي إمكان المغرب والجزائر العمل على إحياء اتحاد المغرب العربي بهدف التعاون والتكامل الاقتصاديين والتنسيق الأمني لدفع الأخطار المحدقة بالمنطقة. حينها سيساهم إحياء هذا الاتحاد في إيجاد حل سياسي للنزاع في الصحراء ضمن معادلة رابح – رابح.
اخبار سورية الوطن 2_الميادين