| يوسف فارس
غزة | قبل سبع سنوات من اليوم، كان من الممكن أن يدخل المرء في نوبة ضحكٍ هستيرية، وهو يستمع إلى حديث واحدٍ من معارفه المقاومين، عن الشكل الذي تجهّز له «كتائب القسام» جنودها لخوض المعركة الكبرى: «نقتحم الحدود بآلاف المقاتلين، نصنع جداراً نارياً بالهاون والمقذوفات الصغيرة، ثم تُغير المسيّرات على الدبابات والأسلحة الآلية، وتتولى وحدات القنص تعطيل كاميرات المراقبة، بعدها نبدأ بتطهير كامل للمستوطنات، ونأسر العشرات من الجنود والضباط». حتّى قبل يوم أول أمس السبت، كان كل ذلك محض أحلام أُشربها مراهق تحرّكه الأحلام والشعارات الكبيرة.
مرّت سنوات تخللتها معركة «سيف القدس» القصيرة نسبياً، التي امتدّت على عشرة أيام وثماني ساعات لم تسمح في تنفيذ أيٍ من السيناريوات التي تدرّب عليها جنود النخبة طويلاً. غير أن الساعة السادسة والثلاثين دقيقة من صباح السابع من تشرين 2023، كانت شاهدة على تجسيد واقع عملياتي، يتجاوز الأحلام والأمنيات: أكثر من 3000 صاروخ قصير المدى من طراز صُنع خصيصاً لهذه الجولة سيحمل اسم «رجوم»، دكّت بها الوحدة الصاروخية لـ«القسام» المستوطنات المحاذية لقطاع غزة. وبعد 20 دقيقة من القصف المتواصل، كانت وحدة المظليين «صقر» تندفع مع الريح على متن آليات مظلية نصف أوتوماتيكية، صُنعت أيضاً خصيصاً لهذه المَهمّة، في اتجاه الحدود. وفي غضون ذلك، بادر المئات من المقاومين بالهجوم على السياج الفاصل، فتحوا ثغرة عبر تفجير السياج، ثم التقوا مع من سبقهم من رفاقهم المظليين، وشرعوا في تطهير المواقع العسكرية المتاخمة للحدود. اشتباكاتٌ اعتمد فيها المقاومون على عامل الصدمة والمباغتة، والتحم فيها المقاتلون المجهّزون بكميات وافرة من القنابل والرصاص، وجهاً لوجه مع الجنود الإسرائيليين الذين لم يكونوا قد استوعبوا بعد هول المفاجأة.
قبيل الهجوم بلحظات، كانت طائرات المقاومة المسيرة تمهّد الطريق لعبور المقاومين، عبر قصف كل ما يعترض طريقهم من أهداف، مثل الدبابات والأسلحة الآلية الرشاشة. وبعد أقل من ساعة على الصدمة التي اعترت الإسرائيليين، اندفع الآلاف من المقاومين في اتجاه المواقع التي وطأتها أقدام رفاقهم، ثم تبعهم عشرات الآلاف من المواطنين. تجاوز مشهد الساعات الخمس الأولى الأحلام كثيراً، إذ ضجّت شوارع القطاع بأنباء عن العشرات من الأسرى الجنود والمستوطنين، من بينهم نحو 20 ضابطاً من ذوي الرتب العسكرية المهمّة، والعشرات من المستوطنين والمستوطنات، الذين اقتيدوا لتوفير الحماية للمقاومين أثناء الانسحاب، وهو ما تمّ فعلاً. غابت شمس اليوم الأول من المعركة التي حملت اسم «طوفان الأقصى» على وقع انتصار معنوي وعسكري مجلجل، وبدا جيش الاحتلال غارقاً في البحث عن الطريقة التي يمكن عبرها أن يرتّب أولوياته: هل يبدأ بتطهير نحو 90 كيلومتراً خرجت من سيطرته بمحاذاة غزة؟ أم يشرع في عملية انتقامية تعيد إلى قواته شيئاً من الهيبة الضائعة؟ هل يدخل برياً أم يكتفي من الجو؟ هل يوقف الحرب ويبدأ بالتفاوض لتحرير أكثر من 60 أسيراً وأسيرة من جنوده ومستوطنيه؟ ثم يعاود الكرة بعد أن يخرجهم من غزة؟
مارست المقاومة أعلى مستويات الإذلال وكيّ الوعي، والذي انسحب على أدائها الإعلامي
حملت أحداث اليوم الثاني، مؤشراً إلى أن الخيارات البائسة كلها السابقة الذكر لن تكون متاحة أساساً، لأن «كتائب القسام» رسمت بتكتيكها الميداني المفاجئ مسار التحرك الإسرائيلي، إذا لم يكتفِ المئات من جنودها بالبقاء في أكثر من 14 مستوطنة، إنما بادرت «القسام» إلى تنفيذ عمليات اقتحام جديدة، طاولت مواقع مثل «كوسفيم» و«ناحل عوز» و«مفكاحيم». هذا الأسلوب الجديد، بدا واضحاً أنه انتُزع من أركان عقيدة القتال والردع الإسرائيلية، القائمة أساساً على «نقل المعركة إلى أرض الخصم».
هكذا، قلبت المقاومة، وفي مقدّمتها «كتائب القسام»، ساعة الرمل، وحوّلت الأسلحة التقليدية، مثل الصواريخ وقذائف «الهاون»، التي كانت حتّى وقت قريب عمادَ القوة العسكرية لفصائل المقاومة في غزة، إلى أسلحة رديفة ومساندة تؤدّي دور الإسناد والتشتيت ورفع مستوى الضغط والإلهاء، فيما أصبحت سواعد المقاومين وتكتيكاتهم وجرأتهم الفريدة، هي العماد الحقيقي للحرب، وفي تلك تتفوّق المقاومة بكل تأكيد. بلغة الأرقام، التي في المناسبة هي أيضاً ليست سوى هامش في المشهد الكلي، قتلت المقاومة وفقاً للاعترافات الإسرائيلية، أكثر من 600 جندي ومستوطن في غضون يوم واحد من القتال، فيما جرحت أكثر من 2000 آخرين. على أن المفصلي والمفاجئ في ما حدث، هو تمكّن المقاومين من قتل 30 ضابطاً، وأسر شخصيات عسكرية مهمة جداً.
في الأحوال كلها، مارست المقاومة أعلى مستويات الإذلال وكيّ الوعي، والذي انسحب على أدائها الإعلامي، إذ أظهر هذا الأخير أن «غلاف غزة» الذي حرص الاحتلال على تحويل شكله «الحضاري» إلى مستوى يتجاوز مدينة «تل أبيب»، قد تحرّر عملياً، بعدما كان رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق، إسحاق رابين، قد قال ذات يوم: «أتمنى أن أستيقظ من النوم ذات صباح فلا أجد غزة على الخريطة».
سيرياهوم نيوز3 – الأخبار