نبيه البرجي
هنا “اسرائيل”. لا يمكن لأي كان أن يعرف بما امتلأت تلك الرؤوس. بوحول الأزمنة أم بدماء الأزمنة، بعبقرية الأزمنة أم بحماقة الأزمنة؟ الديانة التي أنتجت يوشع بن نون أنتجت ألبرت اينشتاين، والتي أنتجت باروخ سبينوزا أنتجت بنيامين نتياهو. هذه أيضاً حال المسيحية التي اذ أعطت فرنسيس الأسيزي، أعطت أدولف هتلر. وحال الاسلام الذي خرج منه أبو ذر الغفاري، كما خرج منه الحجاج بن يوسف. لا أحد هناك سوى الحجاج بن يوسف.
من زمان انتهى مسلسل الأنبياء (حقاً لا ندري لماذا نزلوا ولماذا توقفوا)، وتلاشى الله في الكائن البشري. لن نسأل أين الله في هذا القرن، وانما أين الانسان في هذا القرن؟
السؤال بعد قراءة (مريرة) لفلسفة الأديان ولتاريخ الأديان. المقدّس في زمننا، بل في كل الأزمنة القوة. من يمتلك أضخم ترسانة نووية هو الأقوى، ومن يمتلك أكبر عدد من الصواريخ العابرة للقوات هو الأقوى. أميركا هي الأقوى. في الشرق الأوسط “اسرائيل” ظل لأميركا. عبثاً نحاول أن نتسلق هذا الجدار لكأنه الجدار الأبدي…
ثمة تراجيديا حدثت وتحدث في غزة. لم يعد اليهود، كما وصفهم الانكليزي الكونت كليمنت بالمرستون “أمة الآلام”. الفلسطينيون “أمة الآلام”. ما نلاحظه في الصحف الغربية، وعلى وجوه القادة العرب ألاّ نهاية لتلك التراجيديا الا بنهاية أميركا. الغطرسة بلغت بروبرت كاغان حد القول “أميركا تنتهي بعد أن ينتهي الله”.
ما نستنتجه من مئات المقالات، أن “اسرائيل” في حالة من الهذيان التوراتي. ما نتوقعه وما لا نتوقعه، يمكن أن يحصل. وحين يؤتى على ذكر لبنان، يقال ان هذا البلد الذي حوّله أهله الى حطام سياسي وحطام طائفي وحطام مالي، ليس مؤهلاً في أي حال للحرب. أحزاب وطوائف مبعثرة. حكماء الجمهورية (وأي حكماء هؤلاء؟) يعتبرون أن رئيس الجمهورية الذي ـ عادة ـ يدخل الى القصر من ثقب الباب، هو المايسترو الذي يعيد البنية الأوركسترالية للدولة، كما لرعايا الدولة.
لكن “اسرائيل” التي أنهكتها رمال غزة ودماء غزة، ليست مؤهلة أيضاً لحرب أخرى، وان كان الائتلاف الهمجي يعتبر أن الأشهر الخمسة الأخيرة أظهرت له أكثر فأكثر نقاط الضعف في الوضع اللبناني، وقد وصل عدد الشهداء الى حد الفجيعة. حقاً ماذا يحصل؟ ومن يطعن في الظهر وفي الصدر وفي الخاصرة؟ لم نكن نتصور أن لبنان يمكن أن يكون مكشوفأً ـ وعارياً ـ الى ذلك الحد…
كثيرون في الداخل وفي الخارج، يرون أن الحرب آتية لا محالة. في نظر “الاسرائيليين” أن ثمة أبواباً كثيرة مشرعة أمامهم في لبنان، الذي لم يعد بيتاً بمنازل كثيرة، وانما بيتاً بأبواب كثيرة. لعله البيت الذي بمقابر كثيرة…
لبنان، ونقولها ثانية، أمام مفترق وجودي. حدقوا في المشهد من كل جوانبه. هذا ليس بالبلد الذي يمتلك الحد الأدنى من ديناميات الصراع (الصراع من أجل البقاء). شظايا سياسية وطائفية. ما يتناهى الينا من المهرجانات ومن المواقف، وحتى من المواعظ، يؤكد فعلاً أننا لا نشبه بعضنا البعض (وهذا كلام لا تقوله سوى الثيران البشرية). متى نستيقظ من هذا الجحيم؟
ما يجعلنا نطمئن قليلاً، ليست زيارة آموس هوكشتين الذي يحاول ضبط الايقاع، وانما ما يتردد ديبلوماسياً.
“صحيح أن نتيناهو يفكر انتحارياً. لكن الجنرالات لا يفكرون كذلك بعد تجربة غزة. اللهجة العالية التي تصدر بشكل يومي عن “تل أبيب” هي لهجة تكتيكية، الغاية منها الضغط الى أبعد الحدود، لزعزعة الوضع اللبناني أكثر فأكثر، ما يتيح تنفيذ القرار 1701 وفق الرؤية، أو وفق الرغبة “الاسرئيلية”. نتياهو يعلم أن أي حرب، وان دمرت لبنان، ستحدث كوارث زلزالية في الدولة العبرية”. لكن المؤسسة اليهودية هناك. أي مؤسسة عربية هناك؟
من اللافت هنا، ما يرد في آراء بعض المفكرين أو المؤرخين الغربيين من أن اليهود اعتادوا على ذلك النوع من الكوارث (باعتبار أنها تحدث بأمر إلهي لا لمعاقبتهم وانما لايقاظهم). نبوخذنصر البابلي دمر الهيكل الأول وسباهم الى بابل. تيتوس الروماني دمر الهيكل الثاني وشتتهم في الجهات الأربع. “الحاخامات” يعتبرون أن “اسرائيل” باتت بحاجة الى صدمة لبناء الهيكل الثالث.
رؤوس لا ندري بما امتلأت. أكثرية “الاسرائيليين” مع الحرب ضد لبنان. أقليات لبنانية لا تدرك أنها، بتبعثرها الحالي وبالصراعات الدونكيشوتية، تقدم رؤوسها على طبق من الذهب الى “يهوذا”. هذه حالنا…
(سيرياهوم نيوز ٣-الديار)