إنَّ نقاش السوريين اليوم، من اقتصاديين وأكاديميين ومهتمين بالشأن العام، يتركز على تحليل ومراجعة نقاط داخلية أساسية، أبرزها مسألة الاستثمار الاقتصادي للمناطق المحررة خلال العامين 2018 و2019.
بخلاف الكثير من التوقعات، فإنَّ استعادة الحكومة السورية السيطرة على مناطق واسعة من البلاد خلال العامين 2017 و2018 لم يحقّق الأثر الاقتصادي المرغوب شعبياً، فما الذي حال دون استثمار تلك المناطق المعروفة بثرواتها الموزعة بين الزراعة والنفط والغاز والصّناعة؟
مع استعادة الحكومة السورية السيطرة على مناطق واسعة من البلاد خلال الفترة الممتدة من العام 2017 ولغاية العام 2019، توقَّع السوريون أن يشهد الوضع الاقتصادي انفراجات ملموسة، بحكم الآمال التي كانت تعوّل على إعادة استثمار ثروات المناطق المستعادة، ولا سيما تلك المشهورة بإنتاجها الزراعي أو الصناعي أو النفطي.
هذا الأمر لم يحدث، رغم مؤشرات التحسن المؤقتة التي لمسها السوريون خلال بضعة أشهر من العامين 2018 و2019، سواء على صعيد أسعار السلع والمواد الأساسية أو على صعيد الخدمات الحكومية المقدمة، ولا سيما ساعات التغذية الكهربائية المقبولة؛ فبدءاً من منتصف العام 2019، أخذ سعر صرف الليرة يتراجع تحت ضغوط عدة عوامل، ليصل في الأشهر اللاحقة إلى مستويات قياسية، الأمر الذي أدخل البلاد في موجة تضخم كبيرة كانت الأخطر على الوضع المعيشي منذ العام 2011، إذ تذهب التقديرات البحثية غير الرسمية إلى أنَّ الزيادة التي حصلت على أسعار السلع والمواد خلال الأشهر الخمسة الأولى من العام 2020 تعادل إجمالي الزيادة التي حصلت خلال الفترة الممتدة من بداية العام 2011 ولنهاية العام 2019.
وإلى جانب الارتفاع الكبيرة في معدل التضخّم، والذي لا يزال مستمراً بنسب متفاوتة، تشهد البلاد كذلك اتساعاً في حجم الفجوة المتشكّلة بين مستويات الطلب على الخدمات والسلع الرئيسية والكميات المتاحة منها. ونتيجة لذلك، انتشرت بشكل واضح ظاهرة الازدحام أمام المؤسسات الحكومية المعنية ببيع سلع أساسية، كالخبز والمشتقات النفطية والمواد التموينية المدعومة وغير ذلك. كلّ ذلك بالتزامن مع توسع المساحة التي باتت تشغلها السوق السوداء بسلعها وعامليها في الحياة الاقتصادية المحلية.
ثورة زراعية أخرى
ليس هناك من يشكّك في حجم التأثير السلبي للحصار الأميركي في الاقتصاد السوري، وخصوصاً مع إقرار إدارة ترامب قانون “قيصر” ووضعه موضع التطبيق في منتصف العام 2020، وما نتج منه من ارتفاع في تكاليف الاستيراد بنسبة تصل أحياناً إلى أكثر من 50%، فضلاً عن عزوف الشركات الغربية عن التعامل مباشرة مع نظيراتها السورية، حتى في السلع والبضائع التي لم تشملها نظرياً جميع العقوبات الغربية، كالغذاء والدواء.
في ضوء ذلك، إنَّ نقاش السوريين اليوم، من اقتصاديين وأكاديميين ومهتمين بالشأن العام، يتركز على تحليل ومراجعة نقاط داخلية أساسية، أبرزها مسألة الاستثمار الاقتصادي للمناطق المحررة خلال العامين 2018 و2019، لجهة مدى نجاح الخطط الحكومية في إعادة توظيف ثروات تلك المناطق لخدمة سياسة “الاعتماد على الذات” المعلنة رسمياً في مواجهة العقوبات الخارجية والصعوبات التي لا تزال تمثل عقبة رئيسية تحول دون تحقيق الاستثمار الأمثل للثروات الوطنية المتاحة حالياً في المناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة.
يمكن تصنيف أهمية المناطق التي عادت إلى سيطرة الدولة خلال العامين المذكورين سابقاً، والمقدر مساحتها بما يوازي مساحة بعض الدول العربية، ضمن ثلاث خانات:
تشمل الخانة الأولى المناطق التي كانت تشتهر سابقاً بإنتاجها الزراعي، وهي التي كان يعول على استعادتها في دعم الكميات المحلية المتاحة للاستهلاك من المحاصيل الزراعية الغذائية. هذه المناطق موزعة على 11 محافظة سورية، بحسب بيانات غير منشورة لوزارة الزراعة في العام 2019، والتي جاء فيها أيضاً أنّ مساحة الأراضي الزراعية المحررة في تلك المحافظات بلغت خلال الموسم الزراعي 2019 حوالى 855.5 ألف هكتار، زرع منها حوالى 525.6 ألف هكتار، أي ما نسبته 61% فقط.
وتضيف البيانات أن عدد الأسر النازحة والعائدة إلى قراها وأراضيها بلغ خلال الفترة نفسها حوالى 273.7 ألف أسرة، أي حوالى 3.1 مليون نسمة، أغلبهم في محافظات حلب ودير الزور ودرعا، مع الإشارة إلى ناحية أخرى، وهي أن نوعية المحاصيل الزراعية وكميات الإنتاج المتحققة من تلك المساحات لا تتوافق مع الأولويات الزراعية في هذه المرحلة، بدليل كميات القمح المنتجة سنوياً، والتي تقل عن الخطط الموضوعة، ولا تلبي الاحتياجات المحلية، إضافةً إلى التوسع الحاصل في بعض المحاصيل غير المنتشرة سابقاً، كالتوابل مثلاً.
تؤكّد المعطيات أنّ معظم الأراضي الزراعية في المناطق العائدة لسيطرة الحكومة تعرّض بفعل سنوات الحرب الطويلة لأضرار مختلفة، بعضها طال جاهزية البنى التحتية من طرقات ومعدات وتجهيزات وغيرها، وبعضها الآخر امتدّ ليشمل العناصر البيئية من تربة وموارد مائية وأشجار وغطاء نباتي وغيرها، الأمر الذي دفع المزارعين العائدين إلى التوجه نحو زراعات سريعة المردودية، بغية تأمين مصدر دخل عاجل يعيل أسرهم، أو التريث لحين إصلاح البنى التحتية وتوفر الإمكانيات اللازمة لإعادة استثمار أراضيهم، وهذا ربما ما حاولت وزارة الزراعة التعبير عنه من خلال مقترحاتها المعلنة سابقاً، والهادفة إلى تشجيع عودة المزارعين إلى أراضيهم واستثمارها، وهي مقترحات قسمتها إلى هدفين: الأول يتعلق بدعم مصادر الدخل وسبل العيش المستدام للأسر الريفية في المناطق المتضررة، والآخر يتمثل برفع قدرات المزارعين وتمكينهم من استئناف العمل الزراعي ومتابعة عملية الإنتاج.
رغم ذلك، إن النتائج المتواضعة التي سجّلت في الموسمين الزراعيين الأخيرين، ولا سيما على صعيد المحاصيل الزراعية الاستراتيجية، أقنعت الحكومة السورية بأن هناك حاجة ماسة إلى سياسات وبرامج جديدة لإعادة إنتاج ثورة زراعية مشابهة لتلك التي حقَّقتها البلاد بعد أزمة الثمانينيات، وهو ما جعلها تكلّف مؤخراً وزارة الزراعة بوضع استراتيجية وطنية خلصت بعد أشهر من النقاش إلى تحديد مجموعة كبيرة من البرامج التنفيذية في مختلف نواحي العمل الزراعي.
تأثير العقوبات الخارجية
تضمّ الخانة الثانية المناطق التي تحوي ثروات طبيعية مهمة، كالنفط والغاز والفوسفات وغيرها. وهنا، تحضر المنطقة الوسطى وأجزاء من محافظة دير الزور، والتي جرى تحريرها خلال العام 2017 من قبضة تنظيم “داعش”.
هذه المنطقة، وعلاوة على أهميتها الاستراتيجية كموقع جيواقتصادي مهم يربط قلب البلاد بأطرافه وبالعراق، تضم مجموعة من الحقول النفطية والغازية يشكّل إنتاجها اليوم إجمالي الطاقة المحلية المتاحة من هذه الثروات، في ظل استمرار سيطرة مجموعات “قسد” على حقول المنطقة الشرقية بدعم من القوات الأميركية.
ووفقاً للبيانات الرسمية، إنَّ الإنتاج الحالي للبلاد من النفط يأتي من حقول المنطقة الوسطى بعد توقف بعض الكميات التي كانت تصل من الآبار التي تسيطر عليها وحدات “قسد”، فيما تؤمن آبار الغاز الموجودة في المنطقة نفسها، إلى جانب بعض الآبار في ريف دمشق، حوالى 15.7 مليون م3 يومياً من الغاز الطبيعي، علماً أنَّ إنتاج هذه الآبار كان يشكل قبل الحرب ما نسبته 50% من إجمالي الإنتاج الوطني من الغاز الطبيعي.
واجهت الحكومة في عملية استثمار هذه الثروات صعوبات وعوائق فنية ومالية أثرت في الكميات المنتجة من الحقول المحررة مقارنة بما كانت تنتجه قبل الحرب، في وقت تشتد الحاجة المحلية للمشتقات النفطية والغازية، فرغم تمكّن الكوادر الفنية المحلية من إصلاح الأضرار التي لحقت بالآبار وتجهيزاتها وتشغيلها من جديد، فإن العقوبات الغربية وضعف الموارد الوطنية من القطع الأجنبية حالا دون تحديث وتطوير التجهيزات الفنية والتقنية، ما انعكس سلباً في النهاية على إنتاجية الآبار، وهذا ربما ما يفسر سبب التراجع المفاجئ في كميات الغاز المنتجة خلال الفترة الماضية، والمستخدمة أساساً في محطات توليد الطاقة الكهربائية.
وبناء على ذلك، فإن المخرج يكمن في قدرة الحصول على معدات حديثة تزيد من إنتاجية الآبار، وفي استعادة السيطرة على المنطقة الشرقية بثرواتها النفطية والغازية، والتي لا يمكن لملف الطاقة أن يشهد استقراراً في سوريا من دونها.
مسؤولية واضحة
تشمل الخانة الثالثة المناطق التي تحتضن مدناً وأنشطة صناعية وحرفية مختلفة، أبرزها مدينة الشيخ نجار الصناعية وغيرها من التجمعات الصناعية داخل مدينة حلب، فضلاً عن التجمعات الصناعية في محافظة ريف دمشق، مثل تلّ كردي ومزرعة فضلون وغيرهما.
هذه المناطق بمدنها وتجمعاتها الصناعية كان يعول عليها في زيادة وتيرة الإنتاج المحلي، وتالياً دخول الصناعة الوطنية فعلياً في مرحلة تعافٍ حقيقية، لكن ورغم أنَّ البيانات الرسمية كانت تتحدَّث عن تحقيق تقدم في عملية إصلاح وإعادة تأهيل المنشآت الصناعية والحرفية المتضررة بفعل الحرب، فحتى نهاية العام 2019 كان عدد المنشآت الصناعية التي أقلعت بالإنتاج من جديد، وفق تقديرات وزارة الصناعة، يصل إلى حوالى 19 ألف منشأة.
أما خلال العامين 2020 و2021، فقد وصل عدد المنشآت التي عادت إلى العمل في المناطق الصناعية والحرفية في محافظة ريف دمشق إلى 6500 منشأة موزعة على 21 منطقة في أماكن مختلفة من المحافظة، إلا أن تراجع المؤشرات الاقتصادية العامة بشكل ملحوظ خلال العامين الأخيرين أثار شكوكاً حيال دقة البيانات الرسمية ومدى نجاعة السياسات الحكومية المتبعة لتنشيط الإنتاج الصناعي، ولا سيما مع الأصوات الصناعية المطالبة بمزيد من التسهيلات والضمانات الإدارية والمالية، والشكوى المستمرة من الإجراءات المعرقلة وتبعات الحرب وتأثيراتها السلبية في بيئة الأعمال، رغم ما تم إصداره من تشريعات وقرارات حكومية هدفها تشجيع الإنتاج المحلي، من قبيل إعادة النظر بالرسوم الجمركية المفروضة على المواد الأولية الداخلة في الصناعة، وتطبيق سياسة ترشيد المستوردات، وإطلاق مشروع لإحلال بدائل المستوردات، وتبسيط الإجراءات اللازمة لاستيراد مستلزمات الإنتاج وغيرها.
هنا، يركل الصناعيون “كرة” المسؤولية بالكامل إلى “ملعب” السياسات الاقتصادية الحكومية، المعنية بتحسين بيئة الأعمال الصناعية وتشجيع الاستثمارات في هذا القطاع، من خلال تقديم تسهيلات وضمانات تساعد ما تبقى من صناعيي الداخل على إصلاح منشآتهم المتضررة وتوسيع المستثمرة منها، وتستقطب من ناحية أخرى الصناعيين السوريين الذين خرجوا من البلاد خلال سنوات الحرب لأسباب مختلفة، وأسسوا مشروعاتهم الاستثمارية المختلفة في دول عربية وأجنبية.
ولكن إذا كانت المناطق العائدة لسيطرة الحكومة قد شكَّلت مورداً اقتصادياً، أياً كانت نسبته ومساهمته من إجمالي الناتج المحلي الإجمالي، فإنها شكلت في المقابل جبهات إنفاق جديدة للخطط الحكومية الخدمية والاستثمارية، بغية إصلاح البنى التحتية وإعادة تأهيل المرافق الخدمية لتأمين المقومات الأساسية لعودة السكان النازحين، وتوفير الخدمات الاجتماعية والتنموية لسكان تلك المناطق، الذين باتوا مسؤولين من قبل الحكومة.
وبحسب البيانات الرسمية، إن القيمة الإجمالية للمبالغ المصروفة على المشروعات في المحافظات من موازنة إعادة الإعمار بلغت خلال العامين 2017 و2018 حوالى 198.7 مليار ليرة (441 مليون دولار بناء على سعر الصرف آنذاك، والبالغ حوالى 450 ليرة للدولار الواحد). وقد جاءت حلب أولاً بحوالى 72 مليار ليرة، ثم ريف دمشق ثانياً بحوالى 47.5 مليار ليرة، فحمص ثالثاً بحوالى 18.2 مليار ليرة
(سيرياهوم نيوز-المبادين9-10-2021)