| محمد منصور
تشير مؤشرات عديدة إلى أن واشنطن شرعت منذ عامين في تحويل جزء من برنامج لتطوير المناطيد الهوائية ليصبح مخصصاً لمراقبة اختبارات الصواريخ الفرط صوتية التي تنفّذها دول مثل روسيا والصين.
طرأت على طرق الاستطلاع العسكري الجوي خلال العقود الماضية، سلسلة طويلة من عمليات التحديث والتطوير، التي من خلالها تمّ توسيع مبدأ الاستطلاع والمراقبة ليخرج من زاوية “التصوير والرصد” إلى زوايا أرحب يتم من خلالها تنفيذ عمليات الاستطلاع باستخدام التقنيات الإلكترونية والمستشعرات البصرية والسمعية، وصولاً إلى تحوّل عمليات الاستطلاع بشكل شبه كامل نحو التقنيات المسيرة عن بعد.
المفارقة فيما يتعلق بتقنيات الاستطلاع الجوي، أنها ما زالت حتى الآن تتضمّن بعض التكتيكات التي تعود أصولها إلى مرحلة ما قبل الحرب العالمية الأولى، ومنها التكتيك المتعلّق باستخدام المناطيد الهوائية كوسيلة لتنفيذ عمليات الاستطلاع والرصد.
هذه المفارقة أعادها إلى الأذهان الظهور المباغت للمنطاد الهوائي الصيني في أجواء الولايات المتحدة الأميركية، والذي تسبّب في حالة لافتة من الاستنفار و”الحيرة” عاشتها السلطات العسكرية والأمنية في الولايات المتحدة، مروراً بعملية إسقاط المنطاد في الرابع من الشهر الجاري، ووصولاً إلى رصد 3 أجسام جوية غير محددة الهوية، تم إسقاط 2 منها على الأقل.
ربما لم تكن هذه هي المرة الأولى التي يتم فيها استنفار منظومة الدفاع الجوي الأميركية بشكل عاجل ضد “أهداف جوية غير محددة الهوية”، لكن ما يميّز تطورات الشهر الجاري في الولايات المتحدة، أن عمليات رصد الأجسام الجوية “غير محددة الهوية”، جاءت بالتزامن مع تحليق المنطاد الهوائي الذي أكدت الصين تبعيته لها، وكذلك بالتزامن مع حديث السلطات الصينية من جانبها، أنها رصدت جسماً جوياً غير محدّد الهوية في أجوائها.
هذا الوضع أعاد إلى الذاكرة الأميركية هجمات تعرّضت لها عبر سلسلة من المناطيد الهوائية المقبلة من اليابان خلال الحرب العالمية الثانية، وهو ما يوجب العودة إلى تاريخ استخدام المناطيد الهوائية عسكرياً، من أجل تحديد دلالات هذه الحادثة، وانعكاساتها المستقبلية على التسلّح الدولي وتقنيات الاستطلاع.
المناطيد العسكرية… الصين صاحبة ضربة البداية
من حيث المبدأ، تعد المناطيد الهوائية العاملة بالهواء الساخن من أقدم وسائل الطيران في التاريخ الإنساني، والمفارقة هنا أن الاستخدام “العسكري” الأول لهذه التقنية كان بأيدٍ صينية، وتحديداً خلال حقبة الممالك الثلاث في الصين بين عامي 220 و280م، وذلك على يد القائد العسكري الصيني “تشوغي ليانغ” أحد أهم القادة العسكريين الصينيين خلال حقبة حكم أسرة “هان”، الذي أسس بشكل كبير لفكرة استخدام المناطيد الهوائية، خلال فترة محاصرته في مقاطعة “سيشوان” من جانب القوات التابعة لأسرة “هان” بقيادة “سيما يي”.
ابتكر ليانغ-الملقّب بـ “كونغمينغ”-مصابيح بدائية تمت تسميتها لاحقاً على اسمه، تتكوّن من قماش خفيف يحيط بشموع مشتعلة، قام ليانغ بإطلاقها في الجو مكتوباً عليها رسائل موجّهة إلى القوات الحليفة له، بحيث تصل إليها هذه الرسائل بعد أن يجرف التيار الهوائي هذه المناطيد في اتجاه مواقعها، وهو ما حدث بالفعل.
نجاح هذه التجربة جعل استخدام هذه المصابيح الطائرة، شائعاً في الوحدات العسكرية الصينية، واقتبستها منها جيوش أخرى مثل الجيش المنغولي، الذي استخدم هذه التقنية للمرة الأولى خلال معركة “لغنيتسا” عام 1241، التي دارت بين القوات المنغولية والقوات الأوروبية المشتركة، خلال غزو المغول لبولندا.
بدأ تطوير هذه الفكرة بشكل مبدأي خلال القرن الثامن عشر، عبر جهود قام بها الكاهن البرتغالي ذو الأصول البرازيلية “بارتولومي دي جوسماو”، الذي عرض عام 1709 نموذجاً مصغّراً لمنطاد مصنوع من الورق المقوّى، يمكن أن يحلّق في الجو عبر الهواء الساخن.
هذه الفكرة عمل عليها بشكل عملي أوسع الأخوان الفرنسيان “جوزيف وإتيان مونغولفييه”، اللذان ابتكرا أواخر عام 1782، المنطاد الأول العامل بالهواء الساخن، معتمدين في ذلك على الفحم لتسخين الهواء الموجود داخل المنطاد، ما يؤدي إلى تحليقه وطيرانه اعتماداً على سرعة واتجاه الرياح. تمكّن الأخوان مونغولفييه عام 1783، من تنفيذ أول تجربة عملية ناجحة في هذا الإطار، في منطقة “آنوناي” جنوب شرق فرنسا، حلّق خلالها المنطاد-الذي لم يكن مأهولاً في هذه التجربة -لمسافة تقارب 2 كلم، على ارتفاع نحو 1500م.
نجاح هذه التجربة، شجّع الأخوين مونغولفييه على تنفيذ تجارب أخرى، تمت إحداها في شهر تشرين الأول/أكتوبر من العام نفسه، وهي التجربة المأهولة الأولى لتحليق المناطيد الهوائية.
خلال القرن التاسع عشر، توسّعت الاستخدامات العسكرية للمناطيد الهوائية، حيث تم استخدامها على نطاق واسع من جانب عدة جيوش أوروبية لمهام الاستطلاع الجوي ونقل البريد والمعدات. وقد شهد عام 1849، أول محاولة لاستخدام المناطيد الهوائية بشكل هجومي، وذلك خلال حصار القوات النمساوية لمدينة البندقية، التي تحصّنت بداخلها القوات الانفصالية الإيطالية، التي كانت تنشط في الأقاليم الشمالية في إيطاليا ضد الوجود العسكري النمساوي.
بعد ذلك تم التفكير في تسيير مناطيد من الورق المقوى محملة بالمتفجرات نحو منازل ومرافق المدينة، بعد تزويدها بالفحم والقطن والشحوم سريعة الاشتعال من أجل تسخين الهواء بداخلها وتحريكها، بحيث تتجه صوب منازل المدينة، ومن ثم تنفجر الشحنات المتفجرة الموجودة على متنها، والتي قدرت زنة الواحدة منها بنحو 15 كلغ.
تم تنفيذ هذه التجربة للمرة الأولى في تموز/يوليو 1849، لكن لم يكتب لها النجاح، وتمت إعادتها مرة أخرى في الشهر التالي، عبر إطلاق 200 منطاد نحو المدينة، وفي هذه التجربة عدد قليل من هذه المناطيد انفجر في الجو فوق المنازل، ما خلق حالة من الذعر داخل المدينة. هذه المحاولة لم تنبع أهميتها فقط من أنها تعد المرة الأولى التي يتم فيها استخدام المناطيد بشكل هجومي، بل أيضاً لأنها كانت عملياً أول عملية قصف جوي في التاريخ العسكري.
مرحلة ما قبل الحرب العالمية الأولى
يمكن اعتبار الحرب الأهلية الأميركية (1861-1865)، بمثابة محطة مفصلية في تاريخ الاستخدام العسكري للمناطيد الهوائية، حيث حرص الرئيس الأميركي أبراهام لنكولن، على تشكيل “فيلق جوي” من المناطيد الهوائية، لدعم العمليات العسكرية للجيش الاتحادي، وحينها أسند عملية تنظيم هذا الفيلق للدكتور “ثاديوس لوي”، الذي عمل على تصميم نموذج أولي لمنطاد يعمل بالغازات المتوّلدة من احتراق الفحم، وقام بتطبيق هذا النموذج بشكل فعلي في تشرين الأول/أكتوبر 1861، حلّق فيها لمسافة 19 كلم. أدرك الدكتور لوي خلال هذه التجربة، أن الاعتماد على الفحم له مساوئ عديدة، فعمل على تصنيع مولدات تسمح بإنتاج غاز الهيدروجين، عن طريق المعالجة الكيميائية لخليط من حمض الكبريتيك وبرادة الحديد.
تمّ بالفعل تصنيع هذه المولدات، وأنتج لوي 7 مناطيد، استخدمتها القوات الاتحادية بين عامي 1861 و1863، في عمليات الاستطلاع ورسم الخرائط الميدانية، كما تمت تجربة هذه المناطيد في تنفيذ مهام عسكرية أخرى لم يسبق أن نفذتها المناطيد الهوائية. منها إطلاق النار بشكل مباشر على القوات المعادية، وهي مهمة تمت للمرة الأولى في تموز/يوليو 1861، إضافة إلى تصحيح رمايات المدفعية، وكذا نقل المعلومات العسكرية من الطاقم الموجود في المنطاد إلى القيادة على الأرض عبر التلغراف، بواسطة أسلاك يتم مدها على حبال تثبّت المنطاد بالأرض.
جدير بالذكر هنا، أن المناطيد الهوائية كانت لها استخدامات لافتة أخرى خلال نزاعات عسكرية جرت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، مثل الحرب الفرنسية البروسية التي دارت بين عامي 1870 و1871، فقد تمكّنت القوات الفرنسية المحاصرة داخل باريس، من إدامة التواصل وتبادل البريد مع المدن الفرنسية الأخرى، عبر المناطيد التي نقلت العتاد والأشخاص من وإلى باريس خلال فترة الحصار.
وقد أدمجت عدة جيوش أوروبية المناطيد الهوائية ضمن منظوماتها القتالية، خلال المراحل التالية التي سبقت اندلاع الحرب العالمية الأولى، مثل بريطانيا التي استخدمت منذ عام 1885، المناطيد الهوائية في حملاتها العسكرية المختلفة في أفريقيا أواخر القرن التاسع عشر، وأيضاً في حرب البوير الثانية، التي دارت رحاها بين عامي 1899 و1902.
قامت بعض هذه الدول بتأسيس فيالق جوية متكاملة تخدم فيها المناطيد الهوائية، منها فرنسا التي أسست فيلقاً للمناطيد الجوية عام 1877، وألمانيا التي أسست فيلقاً مماثلاً عام 1884، وكذلك النمسا والإمبراطورية الروسية.
الحربان العالميتان الأولى والثانية.. ذروة استخدام المناطيد عسكرياً
استمرّ استخدام المناطيد الهوائية على المستوى العسكري خلال النصف الأول من القرن العشرين، حيث استخدمت القوات اليابانية هذه التقنية خلال الحرب ضد الجيش الروسي بين عامي 1904 و1905، وكذلك فعل الجيش الإيطالي خلال غزوه للأراضي الليبية عام 1911.
نقطة التحوّل التالية في الاستخدام العسكري للمناطيد كانت خلال الحرب العالمية الأولى بين عامي1914و1918، حيث استخدمت الأطراف المتحاربة المناطيد الهوائية كافة في تنفيذ عمليات الاستطلاع والمراقبة، إلى جانب التوسّع أكثر في الاعتماد على هذه التقنية لمراقبة نتائج ضربات المدفعية، وتصحيح نيرانها اعتماداً على وجود مراقبي المدفعية في مناطيد الاستطلاع.
لكنّ تجربة المناطيد خلال هذه الحرب اتسمت بعدة سمات، منها أن العناصر المنوط بها التمركز على مناطيد الاستطلاع، تم تزويدها بمظلات بحيث تقوم بالقفز من على متنها بعد إيصالها إلى الارتفاع المطلوب، كما أنه-ونظراً لتزايد أهمية المناطيد في عمليات الاستطلاع في هذه الحرب-تم تخصيص فرق للدفاع الجوي مزوّدة بمدافع رشاشة لحماية المناطيد من محاولات الإسقاط.
خلال هذه الحرب، استخدمت كل الأطراف-خاصة فرنسا وألمانيا- 3 أنواع رئيسية من المناطيد، الأوّل نوع استطلاعي يتم ربطه بالأرض بشكل دائم، على ارتفاعات تصل إلى 3 كلم، ويتمركز بداخله أفراد المراقبة، والثاني هو بالونات يتم تحريرها في الجو نحو مواقع العدو، لإلقاء المنشورات الدعائية المختلفة ضمن الحرب النفسية. أما النوع الثالث فكان عبارة عن مناطيد ضخمة تعمل على ارتفاعات أكبر تصل إلى 5 كلم، وتعمل بمساعدة محركات، وتستطيع حمل حمولات أكبر بما في ذلك أطقم المراقبة والاستطلاع، وبعض المدافع الرشاشة، إلى جانب إمكانية حمل وإلقاء قنابل جوية من على متنها. ولعل أبرز الأمثلة على هذا النوع كان المنطاد الألماني “زيبلن”.
شمل استخدام الجيوش المشاركة في هذه الحرب للمناطيد أيضاً مهام الدوريات الساحلية المضادة للغواصات، والتي من خلالها يتم رصد أماكن وجود القطع البحرية والغواصات المعادية. يضاف إلى هذا قيام بعض الجيوش-خاصة الجيش البريطاني-باستخدام المناطيد الصغيرة في نشر بعض الكابلات والعوائق الفولاذية، لمنع تحليق الطائرات المعادية في أجواء الأهداف الحيوية المهمة. وقد تم تزويد هذه المناطيد في بعض الأحيان بعبوات ناسفة صغيرة، بحيث تنفجر في حالة اصطدام الطائرات المعادية بها، علماً أنه تم تطويق العاصمة البريطانية بمثل هذه العوائق خلال فترة الحرب، بمناطيد حاملة للعوائق الحديدية، بإجمالي طول بلغ نحو 80 كلم.
في الحرب العالمية الثانية، كانت لليابان تجربة مهمة فيما يتعلق بالمناطيد العسكرية، لها ارتباطات وثيقة بما حدث مؤخراً في الولايات المتحدة الأميركية، حيث خططت طوكيو لشن هجمات متتالية على الأراضي الأميركية خلال الحرب، باستخدام أسراب من مناطيد “فون-جو” المزوّدة بشحنات متفجرة، وهي مناطيد تعمل بالهيدروجين، مزوّدة بحمولة قتالية تتكون من قنبلتين حارقتين تبلغ زنتهما 5 كلغ، إلى جانب قنبلة إضافية مضادة للأفراد يبلغ وزنها 15 كلغ، أو يتم استبدال كل ذلك بقنبلة واحدة تبلغ زنتها 12 كلغ.
كان الغرض الأساسي من إنتاج هذه المناطيد، إطلاقها من على متن الغواصات اليابانية قرب الساحل الأميركي، بهدف إشعال حرائق ضخمة في الغابات الأميركية، لكن لتعقيدات لوجستية تم تعديل هذه الخطة ليتم إطلاق هذه المناطيد من 3 نقاط إطلاق على الساحل الشرقي الياباني، نحو الأراضي الأميركية قاطعة مسافة تبلغ 8 آلاف كلم، لتصبح بذلك عملية القصف الاستراتيجي عابرة للقارات للمرة الأولى في التاريخ العسكري.
بالفعل تم بين تشرين الثاني/نوفمبر 1944 ونيسان/أبريل 1945، إطلاق 9 آلاف منطاد ياباني نحو الأراضي الأميركية، وصل إليها منها نحو 1000، وانفجر من هذا العدد نحو 300 منطاد، لكن لم تسفر هذه الخطة عن خسائر أميركية تذكر، اللهم وفاة 6 أميركيين بعد أن حاولوا فتح العبوات المتفجرة الموجودة ضمن أحد المناطيد اليابانية، التي هبطت في إحدى غابات ولاية “أوريغون” الأميركية.
كانت التجارب البريطانية والأميركية فيما يتعلق بالمناطيد خلال الحرب العالمية الثانية، أقل من حيث الزخم من التجربة اليابانية، لكنها في الوقت نفسه كانت مستوحاة ممّا توصلت إليه الأبحاث اليابانية في هذا الصدد. لندن من جانبها كانت قد أسست عام 1938، قيادة خاصة بالمناطيد في رئاسة أركان الجيش البريطاني، بهدف نشر المناطيد والعوائق المضادة للطائرات، كذلك أطلقت خلال هذه الحرب عملية “أوتوارد”، التي كانت تستهدف مهاجمة الأراضي الألمانية أو التي تحتلها ألمانيا في أوروبا، بمناطيد تعمل بالهيدروجين، بهدف التسبب بأضرار في خطوط الضغط العالي الخاصة بشبكات الكهرباء، أو إحداث حرائق كبيرة في الحقول الزراعية والغابات.
المناطيد العسكرية خلال وبعد الحرب الباردة
رغم تراجع الاهتمام الدولي بالمناطيد العسكرية في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، نتيجة للتطوّر الهائل الذي طرأ على التقنيات الجوية والصاروخية، إلا أن الولايات المتحدة الأميركية عادت للاهتمام بهذه التقنية بفعل حاجتها إلى تنفيذ عمليات مستمرة للاستطلاع العميق لأراضي الاتحاد السوفياتي والصين خلال الحرب الباردة.
أهمية المناطيد الاستطلاعية تزايدت بشكل أكبر بعد حادثة إسقاط الدفاعات الجوية السوفياتية لطائرة الاستطلاع والتجسس الأميركية “U-2” عام 1960. بداية إحياء واشنطن لبرامج إنتاج المناطيد العسكرية، كان خلال النصف الثاني من أربعينيات القرن الماضي، عبر برنامج “Mogul” الذي استهدف التجسس الصوتي على أجواء الاتحاد السوفياتي، من خلال منطاد يحلق على ارتفاعات كبيرة، ويقوم برصد أي موجات صوتية ناتجة عن التجارب النووية السوفياتية، من خلال مستشعرات صوتية مزوّد بها، إضافة إلى كشفه عن التجارب الصاروخية الباليستية السوفياتية، من خلال الموجات الصوتية التي تنتج عن تحليق الصواريخ في الغلاف الجوي.
عقب هذا البرنامج، أطلقت واشنطن عدة برامج لإنتاج المناطيد العسكرية المخصصة للتجسس، اعتماداً على برنامج البحرية الأميركية الخاصة بإنتاج مناطيد رصد الأحوال الجوية “Skyhook”، حيث كان هذا البرنامج بمثابة نقطة انطلاق عدة برامج لإنتاج المناطيد العسكرية مثل برنامج “Gopher” و”Genetrix” و”Melting Pot” و”Grandson”، إلى جانب برنامج “E-77” الذي اعتمد على تصاميم مناطيد “فو-جو” اليابانية السالف ذكرها، وتم تخصيصه لنشر العوامل البيولوجية، لكن لم يتم استخدام هذا المنطاد بشكل عملي نتيجة لعدم دقة النتائج التي أسفرت عنها اختبارات تحليقه واستخدامه.
بحلول منتصف خمسينيات القرن الماضي، كانت المناطيد الأميركية المحلقة على ارتفاعات تصل إلى 30 كلم، قد قامت بتصوير معظم الأراضي السوفياتية، خاصة بعد أن تم تحسين قدرات البقاء والتصوير الخاصة بها، حيث كانت تستطيع التحليق بشكل متواصل لمدة 10 أيام، وزودت بكاميرات ذات زاوية تصوير واسعة، يمكنها تصوير منطقة بعرض 80 كلم تقريباً، وكذلك تم تحسين عملية استرجاع هذه المناطيد، سواء عبر إسقاط الكاميرات عبر المظلات في أماكن محددة، أو إسقاط المناطيد بشكل محسوب زمنياً فوق أراضٍ حليفة.
استمرت عمليات إطلاق المناطيد الأميركية نحو الأراضي السوفياتية من قواعد في تركيا واليابان حتى أوائل عام 1956، حين أمر الرئيس الأميركي دوايت ايزنهاور بإيقاف هذه العمليات، بعد احتجاج موسكو رسمياً على اختراق هذه المناطيد مجالها الجوي، لكن ظلت عمليات الاستطلاع بالمناطيد مستمرة بشكل متقطع خلال السنوات التالية وصولاً إلى عام 1977، علماً أن الكاميرات الخاصة بهذه المناطيد سقطت سليمة في أيدي السوفيات عام 1956 وكانت-للمفارقة-مساهماً أساسياً في تطوير أول قمر صناعي سوفياتي.
في العصر الحالي، اقتصر بشكل كامل استخدام المناطيد العسكرية على الجانب الاستطلاعي، سواء عبر الكاميرات الحرارية والمستشعرات، أو عبر الرادارات التي يتم تحميلها على هذه المناطيد، وتستخدم هذه المناطيد حالياً دول عديدة من بينها الولايات المتحدة الأميركية، التي استخدمتها في العراق وأفغانستان، وتنتجها شركة “ايروستات” الأميركية، وكذلك “الجيش” الإسرائيلي الذي يستخدم مناطيد الاستطلاع “TAOS” و”بومباردير”.
ما بعد “المنطاد الصيني”
بالعودة إلى ملف المنطاد الصيني الذي جاب الأجواء الأميركية على مدار عدة أيام، لا بدّ من وضع عدة نقاط فيما يتعلق به، منها حقيقة أن هذه ليست المرة الأولى التي يتم فيها رصد مناطيد صينية في أجواء دول أخرى، ففي عام 2020، تم رصد منطاد مشابه في الأجواء اليابانية، وكذلك منطاد آخر تم رصده أوائل العام الماضي قرب قاعدة بحرية هندية في جزر “أندمان ونيكوبار” شرق خليج البنغال.
لذا يجب النظر إلى هذه الظاهرة على أنها جزء من خطة ما تستلهم من دروس استخدام المناطيد العسكرية ما يمكن من خلاله البناء على تجهيز تقنيات جديدة تنقل التقنيات المسيّرة إلى مستوى جديد تماماً، خاصة في ظل الارتفاعات الكبيرة التي تحلق فيها المناطيد في وقتنا الحالي، والتي تتراوح بين 40 و50 كلم، إلى جانب رخص تكاليف إنتاجها وتشغيلها مقارنة بأي وسائط جوية أخرى.
النقطة الثانية في هذا الإطار تتعلق بأن وزارة الدفاع الأميركية تعمل منذ عام 2019، على برنامج لاستخدام المناطيد المحلقة على ارتفاعات تصل إلى 50 كلم، تحت اسم “COLD STAR”، لتكون ضمن شبكات المراقبة المخصصة لتتبّع مسارات تهريب المخدرات، وقد تم حتى الآن إطلاق نحو 25 منطاداً في تجارب خاصة بهذا البرنامج، وتشير مؤشرات عديدة إلى أن واشنطن قد شرعت منذ عامين في تحويل جزء من هذا البرنامج ليصبح مخصصاً لمراقبة اختبارات الصواريخ الفرط صوتية التي تنفذها دول مثل روسيا والصين، وهذا ربما يفسر إنفاق البنتاغون نحو 3.8 ملايين دولار على المشاريع الخاصة بالمناطيد خلال العامين الماضيين، وتخطيطه لإنفاق حوالى 27.1 مليون دولار في العام المالي الحالي على هذه البحوث.
جدير بالذكر هنا، أنه في توقيت تحليق المنطاد الصيني نفسه، كان يحلق منطاد أميركي من نوع “Raven Aerostar”، تابع لوزارة الدفاع الأميركية، ومخصص لرصد حرائق الغابات.
إن احتمالات-عدم مدنية-المنطاد الصيني هي الأقوى في ما يتعلق بالمعطيات السابقة، وقد حقّقت بكين من هذه الحادثة عدة أهداف، من بينها الاختبار العملي لقدرة وتوقيتات استجابة الدفاعات الجوية والرادارات الأميركية لعمليات الاختراق الخارجية، ناهيك عن جمع معلومات استخباراتية مهمة وتجربة استخلاص هذه المعلومات بشكل عملي وآني خلال التحليق، وكذا التسبب في إحراج كبير للقيادتين السياسية والعسكرية الأميركية من جراء ما بدا أنه عجز أميركي أمام هذا المنطاد، وهو عجز حاولت واشنطن تداركه عبر استخدام مقاتلات أف-22 لتدمير هذا المنطاد، كي يسجل التاريخ أن الإسقاط الجوي الأول لهذا النوع من المقاتلات كان لجسم جوي صيني.
خلاصة القول إن ما تواجهه الولايات المتحدة الأميركية على المستوى الجوي يبدو أكبر بكثير من مجرد التعامل مع مخاطر استخدام المناطيد الهوائية كسلاح حربي، علماً أن هذا الاستخدام-والذي جرّبته الولايات المتحدة الأميركية سابقاً سواء من زاوية المستخدم أو من زاوية المتلقّي، باتت تهتم به دول أخرى عديدة، من بينها فرنسا، التي صرّح الشهر الماضي رئيس أركان سلاحها الجوي، بأن عمليات “المجال الجوي المرتفع” – ويقصد هنا المدى الذي يتراوح بين 20 و100 كلم – باتت مرشحة لتكون محور العمليات الجوية خلال السنوات المقبلة، خاصة أن التكنولوجيا الحديثة أصبحت تتيح استخدام مناطيد هوائية ذات تقنية عالية وفي الوقت نفسه رخيصة الثمن.
التحدي الأكبر من هذا يكمن في تطويع الدفاعات الجوية والرادارية للتعامل مع المخاطر الجوية المستحدثة، وهو الوضع الذي أثبتت الطائرات المسيرة، ومن قبلها “الأجسام الجوية المجهولة، ومن بعدهما المناطيد، أن الطريق لتحقيقه ما زال طويلاً، وأن الجهة التي ستتمكن من استغلال النطاقات الجوية العليا، بشكل أقل انكشافاً للدفاع الجوي، وأرخص من حيث التكاليف المادية، يمكن أن يمتلك القدرة على استطلاع وكشف أراضي الطرف الآخر، حتى ولو كانت على بعد مئات الأميال، من دون الحاجة إلى قدرات جوية متفوقة، أو استخدام مكلف للأقمار الصناعية، التي باتت هي الأخرى في السنوات الأخيرة، في مرمى الأسلحة المضادة.
سيرياهوم نيوز3 – الميادين