| بلال اللقيس
حكمَت منطقةَ الشرق الأوسط، خلال الأشهر الماضية، حالةٌ من الترقب الحذر والجمود الشامل -باستثناءات محدودة- وغلبت نظرية السكون لتفسير وضعية الإقليم، على اعتبار أن هذا السكون هو مصلحة عليا أميركية في هذه المرحلة، وأيضاً مصلحة، بقدر، لأعدائها من جهة أخرى (محور المقاومة).
ومن نافل القول إن كلاً من العدوّين أراد التهدئة لغاية ومأرب وينتظر مردودها الإيجابي على استراتيجيته ورؤيته؛ الأميركي يحتاج أن يهدىء منطقة الشرق الأوسط ريثما تنجلي صورة الحرب في أوكرانيا وتبعاتها الدولية وعلى غير صعيد. ويحتاج محور المقاومة، هو الآخر، برهة من الوقت للتقييم واستجلاء نتائج إنجازاته وصموده في السنوات الماضية وأثرها، ولتحديد المقاربة المقبلة وأوجه الفعل فيها، خصوصاً مع متغيّر «الصراع الدولي في أوكرانيا» وتبعاته.
بالنسبة للطرفين، بدا التسكين وكأنه حاجة رغم أنهما في مسار غايات متقابلة ومتناقضة.
لكن، مع حالة الفشل الذي بدأ الغرب يواجهه في أوكرانيا، ظهرت نذر توسّع الصراع، وضرورة مفاوضة الرئيس الروسي بنهاية المطاف، وحالة التفسخ بين دول الغرب الأوروبي وبينه وبين الغرب الإنكلوسكسوني حيث باتت تعالج الشقة على حساب حرية الدولة وحرية قرارها وسيادتها حتى داخل الاتحاد الأوروبي (مصالح الكبار تتقدّم على الحرية البينية واختيارات الدول الأقل تأثيراً). ومع فشله في اتمام خطة العمل المشتركة لإبعاد إيران عن التوجه نحو الشرق، بدت اليوم أكثر إيماناً وتمسكاً بخيارها نحو الشرق وأصبحت فعلياً جزءاً لا يتجزأ من انزياح القوة نحو الشرق وتآزر فواعلها ونهوض تكتلاتها. ومع نذر «تمرد» أبدته العديد من الأنظمة، ومنها أنظمة الخليج، على الرغبة الأميركية بالايحاء بخيارات أخرى، وتراجع ثقة غالبية هذه الأنظمة والدول بالمظلة والحماية الأميركية واحترام أميركا لهم، ولو ظاهرياً، أمام شعوبهم. ولا نغفل عن نجاح الشرق في إبعاد تركيا نسبياً، بل وفعلياً، عن «الناتو» وسياساته مستفيدين مما يكنه الغرب من بغض للشعب التركي المسلم فيها. وتجلى تراجع أميركا بعودة نتانياهو المزعج لإدارة بايدن إلى المشهد. وتتسارع التطورات على الساحة الأفريقية، المتداخلة في قضاياها مع منطقة الشرق الأوسط، من خلال تراجع نفوذ الغرب التقليدي واشتداد المنافسة الأميركية-الروسية الصينية (الجزائر، تونس، مصر، مالي، بوركينا فاسو، وغيرها من دول أفريقيا).
لم تعد الولايات المتحدة تشعر بالاطمئنان على مستقبل حضورها في المنطقة، فالسكون في ظل التعثر الدولي أدّى إلى رخاوة سياسية في تبعية الحلفاء وتعاونهم معها. تلمس الولايات المتحدة تراجعاً حاداً ومتسارعاً في نفوذها في المنطقة، ونتائج أوكرانيا ستزيد من أزمة الثقة بها، فروسيا والصين تبدوان أكثر موثوقية ومرغوبتان من شعوب المنطقة، فضلاً عن استشعار عدد من قوى المنطقة بقدرتهم على النهوض الذاتي، وفي السياق تزداد حالة الكراهيه لأميركا ونظامها. أمّا الإدارة الإيرانية، فتسير محركاتها للتخصيب لتبلغ 60 في المئة حتى الآن وتزداد تصميماً في جاهزيتها وفي مسارها لبناء القوة وتعزيز الاستقلال الذاتي والكفاية.
ها نحن نرى الإدارة الأميركية تطرح مسألة الديموقراطية وخطابها جانباً، وتتوجه لممارسة أعلى درجات الضغط شبه العسكري بمواجهة إيران والإشغال والتجرؤ بالدعوة العلنية لتقسيمها، ويكفي الغافلين زلات بايدن لفهم حقيقة نظرتهم لإيران وروسيا والصين، ويلتحق الغرب كله من خلفها لممارسة أخطر الحروب الهجينة في العصر الحديث بمواجهة شعوبنا ومنطقتنا، فيما
تسارع لاسترضاء محمد بن سلمان وتعفو عن عدوانيته المفرطة فتعيد تدوير الزوايا معه وتقديم أوراق الاعتماد له بتحريكها واصطناعها لقيادة مواجهة مع إيران، وتعيد استرضاءه في ملفات المنطقة -رغم إهاناته المتكررة لإدارة بايدن واستخفافه بها. ولن يكون الكباش الحالي على لبنان ومستقبله ودوره الإقليمي بأقل وطأة وخطورة مما مضى بين حزب الله وحلفائه والغرب والسعودية في المقلب الآخر. كما ويلحظ درجة تغافل الإدارة الأميركية وتعاميها عن أسوء جرائم قتل وإبادة يومية تمارسها إسرائيل بحق الشعب الفلسطيني كدليل إمّا على التنفيس للصهاينة أو عن العجز أو عن فرض الوقائع لحليفتها بالتطنيش. وتستمر بربط حلفائها بخطوات عسكرية وأمنية وترسيخها كامتداد لاتفاقية «أبراهام»، وتقوم بتعزيز وجودها في الشرق السوري وتثبّت هناك، في دلالة على مشروع طويل المدى وتقسيمي. وتعمل في الفضاء العام جاهدة لتخليق خطاب تحتاجه، هذه المرة «الليبرالية المثلية» بدل «الليبرالية الديموقراطية». هي تحتاج إلى خطاب ثقافي صراعي ترضي فيه بعض الأجنحة الداخلية وتقدّمه كعنوان وراية وشعار «جذاب» وعنوان انقسام بعد أن فشلت الليبرالية السياسية والمجتمعية.
هذا بعض من أسباب التغيير الذي سوف نشهده، أمّا الأسباب الأخرى فتعود بوضوح إلى إرادة محور المقاومة وتقييمه لمسار التهدئة والتسكين حتى اللحظة، حيث وجد أنه لا يفتح أي أفق مفيد بقدر ما يريح الأميركي والغرب لاستغلاله لترتيب سياسته الدولية واللعب على حبال خصومه وأعدائه الدوليين. فالغرب لن يسمح للتهدئة أن تستحيل إنقاذاً سياسياً واقتصادياً، هو لا زال يملك قوة التعطيل والمنع ويمارسها بأقصى مداها بعدما تراجع في قوة الفعل في منطقتنا، لا بل والاشغال وضرب الاستقرار الداخلي لاغراق الداخل في أزمات متطاولة.
موضوعياً، لم يعد التسكين مصلحة فعلية طالما أن مردوده صفر، بل إن الأميركي لم يلتزم به أو يطبقه بل تجاوزه، إلا بما يخدم تحييد حلفائه وإبعاد النيران عن ساحاتهم. نسبياً، التسكين أقرب ليكون خدمة لطرف واحد.
إن إعادة النظر بهذه الوضعية تأخذ طريقها، لم لا والظرف الدولي مؤات؛ حاجة دولية لمحور المقاومة وإرباك أميركي في استراتيجيته للتعاطي مع القوى الصاعدة، وفي متنها الصين وروسيا وإيران، ومع حلفائه السلبيين، وتهافت سردية الغرب وتزعزعها، وانتقال جلي للقوة وتوزعها.
أن يبالغ البعض في التريث باستخدام ورقة قوتنا المركزية، أي الملعب العسكري، لهو أمر مستهجن، فهو ملعب أمّتنا الوحيد الناجع نحو النهوض والعدالة والاستقلال السياسي والاقتصادي والثقافي واستعادة الهوية كما أثبتت كل التجارب. الأميركي لا يعرف إلا لغة الخداع والعداء والاكراه بالقوة أو ممارسة الاحتواء من بوابة التسكين وادعاء الرغبة بالتهدئة.
العالم في لحظة تحوّل كبرى، والذي يريد أن يعزّز مكانته في مستقبل الصيغة الدولية هو من يزيد منسوب إسهامه في تسريع هذا التحول وتعميقه، فيركب المخاطرة ويعزز التحدي و«المجازفة» الحصيفة ولا يراهن على سراب وأوهام خطاب الغرب. لذلك، يفترض أن لمحور وقوى المقاومة موقفها وخطوطها الحمراء «الجديدة» في كل ساحات الاشتباك، سياسياً وعسكرياً، بل ستكون أمام خطوات تفرض من خلالها أجندتها الجديدة وقواعدها من ضمن رؤية تكامل ساحات الصراع الإقليمية بشبكة مصالحها الدولية والتخاذل المتبادل. فكما أن يد الديبلوماسية يجب أن تمتد وتقدّم مقاربات جامعة وجادة للإقليم فلا يعني ذلك أن يد القوة واستخدامها يجب أن ينكفىء أو يجب. من يلعب في ساحتك ويمنعك من تثمير إنجازاتك لا بد، بل ويجب، أن يتحمّل الأعباء والتبعات، ومحور المقاومة يمتلك أيضاً قدرة الإرغام وشجاعة الفعل والكيفيات المؤثرة.
إن التهدئة والتفاوض الذي أمله أو ظن به البعض لم تتوفر شروطه بعد طالما أن الرهان الأميركي على استدامة الزعامة لم يتغيّر ولم يقر بعد -ولن يقر- أو يعترف بالواقع الدولي الجديد. وحتى من يرى في التفاوض مصلحة ويرغب به فلا أظن أن يكون إلا تحت النار؛