| عبد المنعم علي عيسى
يمكن الجزم بأن اجتماع «مجموعة الاتصال الدفاعية» حول أوكرانيا المنعقد في قاعدة «رامشتاين» الجوية الألمانية يوم الخميس 8 أيلول الجاري، كان قد شكل تحولاً نوعياً في طريقة التعاطي الغربي مع الحرب الأوكرانية سواء أكان لجهة نوعية وكم الدعم المقدم للسلطات الأوكرانية، أم لجهة الخيارات الغربية التي أكد المجتمعون في «رامشتاين» أنهم هدفوا من خلالها لـ«وضع حد لفكرة أن (الرئيس الروسي فلاديمير بوتين) يمكن له ببساطة أن يتفوق على الغرب»، كما ويمكن الجزم أيضاً بأن اجتماع «رامشتاين» ونتائجه التي أفضى إليها، هي التي لعبت دوراً في التحول الحاصل على جبهة خاركيف بدءاً من اليومين اللذين تليا ذلك الاجتماع وصولاً إلى اليوم، حيث تقول التقارير، المتناقضة تبعاً لمصادرها: إن الروس خسروا، ما بين حدي تلك الثنائية، مساحات جغرافية كانوا قد سيطروا عليها في الشرق الأوكراني سابقاً، وهي من الحجم حيث قد تؤدي إلى «ضرب مشروع بوتين في السيطرة على إقليم دونباس» وفقاً لمحللين غربيين.
قد يكون للتعثر الروسي العديد من أسبابه البعيدة التي من بينها أنهم، حتى اليوم، يسمون ما يقومون به في أوكرانيا بـ«عملية عسكرية خاصة» وهم إلى الآن لم يعلنوا الحرب على أوكرانيا، وهذا الفعل إذ يبدو مبرراً من الناحية الإستراتيجية لكونه يهدف إلى عدم جعل الجبهة الداخلية الروسية على تماس مباشر مع تلك العملية، لكن تداعياته بدأت بالظهور، وفي ظله وجدت موسكو نفسها غير قادرة على إعلان التعبئة في البلاد ولو بدرجة محدودة، وهذا أدى من حيث النتيجة إلى نقص في قوات الاحتياط التي يمكن أن يوفرها الإعلان سابق الذكر، وربما لم يعد من مبرر، بعد الآن، لأن تكون التسمية التي انطلقت بها الحرب يوم 24 شباط الماضي بعيد أن أضحت الولايات المتحدة ومعها جل الغرب، شريكاً، وإن كان غير معلن في السابق، هي المستخدمة بعدما جرى في محيط خاركيف، وكذا بعد تصريحات وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن يوم 13 أيلول الجاري التي أطلقها من المكسيك، فهو قال: إن «الهجوم الأوكراني المضاد على القوات الروسية لا يزال في أيامه الأولى» وإن «القوات الأوكرانية حققت تقدماً كبيراً» و«ما فعلوه خطط له تخطيطاً منهجياً للغاية، واستفادوا بالطبع من الدعم الكبير من الولايات المتحدة والكثير من الدول الأخرى»، والمؤكد أن هذا الأمر لا يشكل سوى مقدمة لطريقة التعاطي الجديدة التي ينتهجها الغرب مع ما يجري في أوكرانيا، والشاهد هو الاجتماع الذي عقده وزراء دفاع حلف «الناتو» في أستونيا يوم السبت 17 أيلول، حيث للجغرافيا التي لا تبعد أكثر من 200 كم عن مسرح العمليات صبغة ذات دلالة أبعد مدى في القرارات التي اتخذها ذلك الاجتماع والذي يمثل بالتأكيد تصعيداً غربياً جديداً تكمن خطورته في أن مراميه النهائية لا تبدو واضحة المعالم.
انطلق التحول الغربي في التعاطي مع الحرب الأوكرانية من أن الروس باتوا يراهنون على سياسة القتال ما وراء خطوط العدو، التي يقصد بها هنا الرهان على التحولات الجارية في أوروبا راهناً، والتي عبرت عنها التظاهرات التي عمت أرجاء واسعة من ألمانيا وتشيكيا وإيطاليا احتجاجاً على التضخم وارتفاع أسعار الطاقة اللذان كانا نتاجاً مباشراً لمواقف الحكومات الأوروبية كما يراها المتظاهرون، والمرمى هنا يشير إلى إمكانية أن تؤدي أزمة الطاقة لكسر العمود الفقري للقارة العجوز التي باتت ترى نفسها المتضرر الأكبر مما يجري على حدودها الشرقية، لكن الأخطر هنا هو إمكانية أن تؤدي تلك التظاهرات، فيما لو استمرت واتسعت، إلى حال من الفكاك ما بين الحكومات الأوروبية وبين شارعها الذي بات جزءاً وازناً منه يرى في الأولى «كيانات تعمل لحساب الخارج» وفقاً للتعبير الذي استخدمته تيارات في المعارضة الألمانية على سبيل المثال لا الحصر.
هنا، يصبح الرهان الروسي بدرجة تطيح بكل الآمال الغربية الرامية إلى كبح الجماح الروسي الماضي في تعزيز أمنه، والدفع بعجلة نظام «متعدد الأقطاب» قدماً إلى الأمام، ومعهما فرض نفسه لاعباً قوياً على المستويين الإقليمي والدولي، ويصبح من يركز «الكاميرا» على ساحات المعارك الدائرة في أوكرانيا كمن يمارس خداع نفسه، حيث الفعل الأهم يكمن بعيداً عن تلك الساحات، وهذا الرهان، الروسي وفق القراءة الغربية، بات يكتسب مشروعيته في أن يصبح واقعاً، في غضون التمرحلات التي تتخذها أزمة الطاقة العالمية، بمدد تقول تقارير إنها لن تتجاوز نهاية العام الجاري.
ما سبق يشكل تفسيراً وافياً لاندفاعة الغرب الحاصلة في «رامشتاين» والمتعززة في «أستونيا»، والتي سوف تكون لها محطات أخرى يتوقف عديدها على النتائج التي ستقود إليها المحطتان سابقتا الذكر، فمثلما راهن الروس على حدوث تحولات تقود إلى فصل الشارع الأوروبي عن حكوماته، فإن الغرب من خلال المحطتين الأخيرتين يبدو مراهناً على تحولات داخلية روسية تقود للفعل نفسه، وإذا لم يحصل فإن المطلوب يصبح عندها هو إجبار موسكو على الجلوس إلى طاولة المفاوضات وفق سيناريوهات ستقود حتماً إلى تداعيات على الداخل الروسي قد تكون شبيهة بتلك التي حصلت في أعقاب الانسحاب السوفييتي من أفغانستان عام 1988.
روسيا لا تزال تمتلك موارد وقدرات كبيرة يمكن تفعليها لإحداث «ستاتيكو» عسكري، والاستمرار في رهانها الخارجي الذي يبدو أكثر قدرة على تحقيق ما تصبو إليه.
سيرياهوم نيوز3 – الوطن