إذا ذكر مصطفى لطفي المنفلوطي في دراسة أو محاضرة، فإنه يذكر، حتى من المتخصصين بأنه ذلك الكاتب الرومانسي الحالم التقليدي، وذكر بالغمز بأنه صاغ القصص الغربية (ماجدولين، تحت ظلال الزيزفون) بأسلوب عربي دون أن يحافظ على النص الفرنسي الأصلي! وهذا صحيح لأن المنفلوطي لم يكن يتقن لغة أجنبية، وإنما حكيت له تلك القصص فصاغها، وفي تلك الحقبة كان ما فعله أمراً جيداً لأنه أطلع القارئ العربي على فن القصة الغربية، ولم يدّع الترجمة، لكن ما وضعه المنفلوطي خلال عمر لم يتجاوز العقود الخمسة في مجلدين ضخمين جاوزا 1800 صفحة يستحق أن يوقف عنده وقفة مختلفة تناسب عصره وما توفر له. فقد ولد في الربع الأخير من القرن التاسع عشر 1876م في منفلوط انحاز إلى الأدب، وكان أستاذه الشيخ محمد عبده الذي عرفه وقرّبه صاحب أثر فيه بالنزعة الإصلاحية.
وفي أسلوبه كان من أوائل الذين خرجوا إلى الأسلوب النثري المرسل الذي غادر التكلف والصنعة ما أمكن ذلك، وأسهم في توجهه وموهبته إضافة للشيخ محمد عبده الزعيم سعد زغلول الذي سانده وأسند إليه مهام عديدة، والصحافة وصاحب جريدة (المؤيد) الذي أفسح له المجال واسعاً ليكتب مواد دورية عرفت فيما بعد (النظرات) و(العبرات) وهناك كثيرون ممن يدعون المعرفة يحكمون على المنفلوطي دون قراءة، وبأن الكتابات حالمة تقليدية اعتباراً من العناوين.. ولأن المنفلوطي سار على نهج أستاذه الشيخ محمد عبده، فإنه لم يكن يروق للكتاب التقليديين الذين يُحسب عليهم دون قراءة، فقد كانوا يتتبعون كتاباته وأخطاءه من أي نوع كانت لنقده وانتقاصه! ومع أنه غادر الدنيا قبل أن يكمل الخمسين فقد نالته عبارات نقدية قاسية من مواطنه صاحب الرسالة أحمد حسن الزيات حين وصفه بـ(ضعف الأداة وضيق الثقافة، لم يكن واسع العلم بلغته، ولا قوي البصر بأدبها، ولم يتحصل على علوم الشرق، ولم يتصل اتصالاً مباشراً بعلوم الغرب، لذلك تفح في تفكيره السطحية والسذاجة والإحالة) وهو نفسه، الزيات يقول فيه (كان المنفلوطي أديباً موهوباً، حظ الطبع في أدبه أكثر من حظ الصنعة، لأن الصنعة لا تخلق أدباً مبتكراً ولا أديباً ممتازاً ولا طريقة مستقلة..) فهو يعترف للمنفلوطي بالطبع والموهبة اللتين يصدر عنهما في كتاباته، وقد يكون المنفلوطي في أخطائه كما ذكر الزيات، لكن الحكم الذي أصدره ربما كان صادراً عن تنافس بين منابر الأحزاب، المؤيد والرسالة، أو بين تياري الإصلاح الديني الذي يمثله محمد عبده وتلامذته، والتيار التقليدي.
أجدني أعود لقراءة المنفلوطي في عطلة نهاية الأسبوع، وأستعرض قراءة سريعة حيناً، ومتمعنة حيناً، لأكتشف أنني كما غيري لم أقرأ المنفلوطي وروحه الإصلاحية كما يجب، وأعثر على عدد من النظرات التي كتبها المنفلوطي وكأنها كتبت اليوم، والتي تثبت أن المنفلوطي كان كاتباً حراً وشريفاً وناقداً سياسياً ودينياً ومجتمعياً، يستحق منا أن نقف عنده طويلاً، وأكدّ لي، وأعترف بذلك أن ثقافة التلقي التي خضعنا لها حرمتنا أن نبدأ من ركيزة قوية لنبني حاضراً ومستقبلاً، والطريف أن ما قاله أديب القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين قد يتحرج أديب اليوم وصحفيه من كتابته وذكره، وقد لا يجرؤ أصلاً.. وفي هذه الوقفة سأنقل نصوصاً للمنفلوطي كتبها منذ زمن بعيد، يعطينا صورة لما عاشه ونعيشه دون أن نقرأ أو نتعلم، والنص الأول يتناول وجود السوريين وفضلهم في مصر، وقد هربوا من العثمانيين!
أهناء أم عزاء
فارق مصر على أثر إعلان الدستور العثماني كثير من فضلاء السوريين بعدما عمروا هذه البلاد بفضائلهم ومآثرهم وصيروها جنة زاخرة بالعلوم والآداب ولقنوا المصريين تلك الدروس العالية في الصحافة والتأليف والترجمة، وبعد ما كانوا فينا سفراء خير بين المدنية الغربية والمدنية الشرقية.. يأخذون من كمال الأولى ليتمموا ما نقص من الأخرى، وبعد ما علّموا المصري كيف ينشط للعمل وكيف يجد ويجتهد في سبيل العيش وكيف يثبت ويتجلد في معركة الحياة.
قضوا بيننا تلك البرهة من الزمان يحسنون إلينا فنسيء إليهم، ويعطفون علينا فنسميهم تارة دخلاء، وأخرى ثقلاء، كأنما كنا نحسب أنهم قوم من شذاذ الآفاق أو نفایات الأمم جاءوا إلينا يصادروننا في أرزاقنا، ويتطفلون على موائدنا، ولو أنصفناهم لعرفناهم وعرفنا أن أكثرهم من بيوتات المجد والشرف، وإنما ضاقت بهم حكومة الاستبداد ذرعاً، وكذلك شأن كل حكومة مستبدة مع أحرار النفوس وأباة الضيم، فأحرجت صدورهم، وضيّقت عليهم مذاهبهم ففروا من الظلم تاركين وراءهم شرفاً ينعاهم، ومجداً يبكي عليهم، ونزلوا بيننا ضيوفاً كراماً، وأساتذة كباراً، فما أحسنا ضيافتهم ولا شكرنا لهم نعمتهم.
وبعد: فقد مضى ذلك الزمن بخيره وشره، وأصبحنا اليوم كلما ذكرناهم خفقت أفئدتنا مخافة أن يلحق باقيهم بماضيهم، فلا نعلم أنشكر للدستور أن فرج عنهم كربتهم، وأمنهم على أنفسهم، وردّهم إلى أوطانهم أم ننقم منه أنه كان سبباً في حرماننا منهم، بعد أنسنا بهم، واغتباطنا بحسن عشرتهم وجميل مودتهم، ولا ندري هل نحن بين يدي هذا النظام العثماني الجديد في هناء أم في عزاء؟
فيا أيها القوم المودعون، والكرام الكاتبون:
اذكرونا مثل ذكرانا لكم
رب ذكری قربت من نزحا
واذكروا صبا إذا غنى بكم
شرب الدمع وعاف القدحا
(سيرياهوم نيوز-الوطن)