- عماد الحطبة
- المصدر: الميادين نت
- 12 شباط 14:33
السياق، الذي جاءت فيه فكرة ما بعد العولمة، كان محاولة فهم المشكلات التي ستنشأ في العالم المعولم وحلها.
في عالمنا الحديث، لا نكاد ندرك المصطلحات التي تنشأ وتتغير بين ليلة وضحاها. فلو كنت
ممن يحاولون متابعة التطورات التي طرأت على عالم اليوم، لوجدت نفسك كل صباح أمام مصطلح تقني أو اقتصادي أو اجتماعي جديد.
في العقد الأخير من القرن الماضي، طغى على تفاصيل حياتنا مفهوم العولمة Globalization، وانقسمت البشرية بين مؤيد ومعارض. كانت أغلبية المعارضين في دول العالم الثالث، والتي رأت شعوبها أن العولمة تستهدف الهويات الوطنية، وتكريس الهيمنتين الاقتصادية والسياسية للقطب الرأسمالي الذي تسلَّم مقاليد الأرض بعد انهيار الاتحاد السوفياتي ومنظومة الدول الاشتراكية.
نشأت حركات مناهضة للعولمة في أغلبية دول العالم الثالث، ووجدت صدىً لها في حركات مشابهة ظهرت داخل المجتمعات الرأسمالية، أشهرها تظاهرات مدينة سياتل عام 1999 في أثناء انعقاد قمة الدول الثماني العظمى (G8). أرادت العولمة تغيير كل شيء دفعة واحدة، وبسرعة، لكنها اصطدمت بجدار الدولة القومية وطموحات الشعوب، التي لجأت إلى المقاومة في أكثر من جبهة.
لم يكن أمام العولمة من سبيل سوى الالتفاف على الأزمة واللجوء إلى التغيير البطيء عن طريق ما عُرف بالعولمة المحلية Glocalization، التي عبّرت عن نفسها بالفكرة الشهيرة: “فكِّرْ عالمياً وتَصَرَّفْ محلياً”.
يدور هذا المصطلح، الذي نحته الألماني مانفريد لانغ، بشأن المواءمة بين السياسات المحلية ومخططات قوى السوق العالمية. تقوم هذه المواءمة على تبني المعايير العالمية الليبرالية للإدارة الاقتصادية بشأن التعامل مع المشاكل والأزمات الاقتصادية المحلية، على نحو يضمن اندماج هذه الاقتصادات العالمية في آليات السوق الحرة. في الوقت نفسه، تترك للشعوب هامشاً واسعاً من الحرية الاجتماعية التي تتعلّق باللغة والعادات والتقاليد، بل باستعادة ثقافات ولغات بادت، والتركيز عليها تحت شعارات، مثل التعدد الثقافي.
ولأن الاقتصاد هو المحرك الرئيس للسياسة، ترافقت العولمة المحلية مع ما عُرف بحملة الحكم الرشيد، والتي قادها الرئيس الأميركي كلينتون من أجل نشر معايير الديمقراطية الليبرالية في دول العالم طوعاً. وتحوّل الإصلاح السياسي إلى شعار عمّ العالم، وأصبحت الانتخابات ممارَسة منتظمة في كثير من دول العالم التي توصف بالديكتاتورية.
جاء الانهيار المالي عام 2008 ليقرع الجرس الرأسمالي، ويحذّر من أن عملية التحول البطيئة لا تؤدي الدور المطلوب منها في إسعاف الاقتصاد الرأسمالي، الذي يقف على شفير الهاوية.
وصلت العولمة المحلية إلى ذروتها في محاولة ما سُمِّي “الثورة الخضراء” في إيران، وما تبعها من أحداث ما سُمِّي “الربيع العربي”، وما رافقه من صدى في المجتمعات الغربية، مثل حركة “احتلّوا وول ستريت” في الولايات المتحدة، و”الستر الصفراء” في فرنسا. جاء “الربيع العربي” متَّكئا على الأزمات السياسية والاقتصادية التي تعانيها الدول العربية. ووجدت الحملة الجديدة صدىً إيجابياً لدى معظم الأحزاب السياسية المحلية، التي شاركت في لقاءات وندوات، جعلتها على قناعة تامّة بأن طريق الديمقراطية الليبرالية الغربية يمثّل الطريق الوحيد للخروج من دوامة الأزمات والقمع.
بدت الصورة كأنَّ القطب الواحد يستعيد سيطرته على العالم، لولا تململ مجموعة من الدول صاحبة المصالح في المنطقة، واندفاعها إلى الظهور في الساحة الدولية عسكرياً، كما فعلت روسيا في سوريا والقرم، أو اقتصادياً، كما تفعل الصين في أكثر من مكان في العالم. بدأ مفهوم القطب الواحد يتلاشى، وتَحَضَّر العالم لمفهوم جديد.
ما بعد العولمة Post– Globalization
بحسب وولشتاين (2007)، فإن العولمة بدأت تنهار بسبب غياب الانتصارات العسكرية الأميركية الحقيقية (غير الإعلامية)، على نحو أثّر في موقفها قائدةً وحيدةً للعالم. أمّا إريك كازدين وإيمريك زيمان فيَريان، في كتابهما “ما بعد العولمة”، فرأوا أن المشكلة الأساسية تكمن في أن العولمة، كمشروع أيديولوجي، وضع نفسه خارج الإطار الزمني. لذلك، وجدت البشرية نفسها مطالَبة بفهم الحد الزمني لهذا المشروع: إذا تعولمت البشرية، ماذا بعد؟
السياق، الذي جاءت فيه فكرة ما بعد العولمة، كان محاولة فهم المشكلات التي ستنشأ في العالم المعولم وحلها. بعبارة أخرى، لم يكن الهدف هو الوصول إلى نقيض العولمة، بل إنقاذها من صعود مشاريع اقتصادية سياسية ذات بُعد قومي، مثّلتها دول مثل الصين وروسيا وإيران. هذا ما عبّر عنه روبرت كاجان، في كتابه “عودة التاريخ، ونهاية الأحلام”. والمقصود بعودة التاريخ، هو استرجاع الصراع بين الديمقراطية الليبرالية والأنظمة الاستبدادية (روسيا، الصين، إيران)، ونهاية الحلم الليبرالي الذي بشّر به فوكوياما.
جاء وباء كورونا ليعلن نهاية العولمة وما بعدها، فالعالم كله يقف عند نقطة انطلاق السباق نفسها؛ سباق العالم عن بُعد. تتقدّم الصينُ اللاعبين بضعَ خطوات بفضل تقنية 5G، لكنّ الولايات المتحدة تحثّ الخطى وراءها، بل حاولت كَسْبَ السباق من خلال طرح تقنية “ميتافيرس” عن طريق شركة “فيسبوك”. كان الطرح متعجّلاً وغير مدروس، وانعكس سلباً على النتائج المالية للشركة، التي خسرت 26% من قيمتها السوقية (241 مليار دولار) في يوم واحد. وعلى الرغم من هذا الفشل، فإن التقنية الافتراضية أصبحت مطروحة في السوق، والسباق اليوم هو إلى امتلاكها.
عندما فشلت العولمة في فرض شروطها على العالم الحقيقي، صنعت عالماً افتراضياً معولَماً، حيث الصناعة والتجارة والأدب والأملاك والثروات. إنه عالم الميتاعولمة Metaglobalization. مجتمعات هذا العالم تعيش في مدن ذكية، يتشارك سكانها في المعلومات على قاعدة المعرفة، بعيداً عن حدود القومية والدين واللغة، تجمعهم القدرة على الابتكار والرغبة في التشارك بواسطة شبكة المعلومات الذكية. اسم اللعبة الجديدة: السيطرة Control على كل شيء؛ العقول التي تلج عالم الميتافيرس؛ الاقتصادات من خلال التلاعب بأسعار العملات الرقمية والعادية؛ انسياب البضائع بين الدول وداخلها، من خلال منصات البيع الإلكتروني؛ فرض التغيير على الأرض من خلال “الدرونات”، التي يمكن أن تقصف في الوقت نفسه قاعدة لإسلاميين متشددين في جبال أفغانستان، وأخرى لثوار يساريين في أدغال أميركا الجنوبية. لا توجد حروب كبرى، بل مواجهات صغيرة، تضمن السلام لسكان العالم الافتراضي.
تبدو الأمور كأنّ نبوءة كاوتسكي بالوصول إلى الألترا – إمبريالية قيد التحقق، أو أننا عدنا إلى بداية التاريخ عندما كانت الآلهة تلهو في قمة أولمبوس، والبشرية تعاني صراعاتها ونزقها.
ما نعرفه حقَّ المعرفة أن الرأسمالية، منذ ظهورها حتى اليوم، لم تكن إلاّ شرّاً ولعنة نزلا على البشرية جمعاء. ونعرف أيضاً أنها قوية ومتوحشة ومجرمة. لذلك، فالطريقة الوحيدة لمواجهتها هي الوحدة… وحدة الضحايا والمتضرِّرين، والمقاومة في كل الوسائل، وفي مقدمتها العلم والتقنية، ليجدوا لأنفسهم مكاناً في العالم الجديد؛ عالم الميتاعولمة.
(سيرياهوم نيوز-الميادين ١٣-٢-٢٠٢٢)