في الرابع من نيسان (أبريل)، بلغ عمر حلف شمال الأطلسي (الناتو) 75 عاماً. هذه «الذكرى السنوية» – بالنسبة إليّ شخصياً – لا تعني سوى العداء وخيبة الأمل التامة. وبالتأمل في نتائج أنشطة حلف شمال الأطلسي على مدى ثلاثة أرباع قرن، يُطرح السؤال الآتي: هل عزّزتْ هذه الكتلة العسكرية الأكثر شهرة، خلال هذه الفترة، على الأقل بعض السلام والاستقرار على الساحة الدولية؟ حين نتذكر عمليات «حفظ السلام» المشينة في يوغوسلافيا، والسنوات المخجلة في أفغانستان، والتدخل «الإنساني» في ليبيا، فإنّ الإجابة في اعتقادي واضحة.علاقات روسيا مع الناتو صعبة جداً. كان الأمر أسهل أن أقول إنه، فعلياً، لا توجد أي علاقات. حاولت موسكو لسنوات عديدة بِناءَ تعاون بَنّاء ومتساوٍ مع هذا الحلف. حتى أننا قمنا بإنشاء مجلس روسيا – الناتو لمناقشة الخلافات المحتملة وحلها. مع ذلك، ومن حيث المبدأ، توقفت أنشطة هذا المجلس، وفي وقت لاحق توقف كل التفاعل مع هذه المنظمة.
سمعنا تصريحات الانفتاح من بروكسل، والرغبة في التعاون في مجموعة واسعة من القضايا ذات الاهتمام المشترك، ولكن بالكلمات فقط. أما في الواقع، فلم تكن لدى الغرب شجاعة التخلي عن طموحات الحرب الباردة. وما زال يُنظر إلى روسيا بنظرٍ قصير وعنيد على أنها «التهديد رقم 1».
لأسباب واضحة تماماً تتعلق بالأمن القومي، عارضت موسكو، ولا تزال، توسع حلف الأطلسي نحو الشرق. في تسعينيات القرن الماضي، وفي اتصالاتنا مع الزعماء الغربيين، تم التأكيد لنا مراراً وتكراراً أنه لن يكون أي توسع للناتو باتجاه حدودنا، وقد صمّوا آذاننا بذلك، وبكل وقاحة وبلا خجل سواء علناً أو في المحادثات الخاصة خلف الكواليس. ولكل هذه الكلمات الفارغة تأكيداتها في الأرشيفات الروسية، لكن الغربيين، بالطبع، لا يستطيعون تذكر ذلك.
كثيراً ما تُسمع الآن من بروكسل شعارات قصيرة النظر: «إن أبواب الحلف لا تزال مفتوحة». هذا يعني أن عملية التوسع وتجنيد أعضاء محتملين مستمرة أمام أعيننا. وفي هذا السياق، نتذكر على الفور الكلمات المشؤومة بشأن عضوية جورجيا وأوكرانيا في منظمة حلف الناتو، وفرض انضمام صربيا والبوسنة والهرسك إلى هذه الكتلة، وانضمام فنلندا والسويد إليه أخيراً. لنكن صادقين – هذا السلوك لا يشبه على الإطلاق التفاعل البناء مع موسكو ومراعاة مخاوفنا. إنهم لا يسمعوننا ولا يريدون الاستماع إلينا. وفي الوقت نفسه، يتجاهلون بلا خجل وعودهم (التي لا قيمة لها الآن).
تسألون إلى ماذا أدى هذا؟ أدى ذلك، إلى تحوُّل أوروبا من منطقة مسالمة وهادئة نسبياً ذات يوم، إلى ساحة للمواجهة الجيواستراتيجية. نحن نرى كيف يتزايد حجم وتواتر التدريبات العسكرية التي يقوم بها حلف شمال الأطلسي بالقرب من حدودنا. اسمحوا لي أن أعطيكم مثالاً محدداً: أكثر من 90 ألف عسكري يشاركون في التمرين الواسع النطاقSteadfast Defender 2024، الذي يحدث الآن. ولا تخفي قيادة الحلف، أنه يتم التدريب حقيقة على تنفيذ مهام صدّ التهديد الروسي الوهمي. والأكثر نفاقاً هو أن كل هذا يحدث على خلفية دعوات مستمرة إلى موسكو «لوقف التصعيد».
نحن ندرك جيداً أن تسمية «التحالف الدفاعي» التي أطلقها حلف شمال الأطلسي بشكل مستقل هي مجرد غطاء وهمي. في الواقع، لا يزال هو، النادي العدواني نفسه المؤلف من مؤيدي النظام العالمي الذي يتمحور حول أميركا. وبالمناسبة، فإن استراتيجية الحلف في التعامل مع أوكرانيا لا تتناسب مع المفهوم الدفاعي العسكري الاستراتيجي.
بفضل مخططي أيديولوجية الناتو (اقرأ: واشنطن)، أوكرانيا التي كانت ذات يوم شقيقة لروسيا، أصبحت نقطة انطلاق للعدوان المستمر عليها. ويتم توجيه حصة كبيرة من القوة العسكرية والسياسية والاستخباراتية والصناعية لحلف شمال الأطلسي إلى كييف لإلحاق أكبر قدر من الضرر بنا.
كما أن النظام الأوكراني يتلقى كميات هائلة من الأسلحة والمعدات من رعاة الناتو. والنتيجة السيئة لذلك هي استخدام صواريخ حلف شمال الأطلسي لضرب السكان المدنيين والبنية التحتية. كذلك غالباً ما يتم بيع الأسلحة بالكامل من قبل المسؤولين الفاسدين في كييف في الأسواق السوداء، حيث تقع لاحقاً في أيدي الإرهابيين.
في الوقت نفسه، من المهم أن نفهم أن أوكرانيا ليست «مرضاً»، بل «عارض» من عوارض الطبيعة العدوانية والمنافقة لحلف شمال الأطلسي، الذي يسعى تحت ستار «الدفاع الجماعي» عن أعضائه، إلى قمع وتدمير كل من هو غير مرغوب فيه. ونوايا بروكسل غير الودية على الإطلاق تتمظهر عبر خطاب المواجهة والحشد التدريجي للقوات والأسلحة في الشمال والشرق. هذا الحلف يقوم بعسكرة مفتوحة للقارة الأوروبية بأكملها على قاعدة مناهضة لروسيا. أما بقايا الدولة الأوكرانية فقد أصبحت بمثابة أرض اختبار للأوهام العدوانية الأكثر تضليلاً لأعدائنا.
مع كل هذا، ليس لدينا على الإطلاق أي نوايا عدوانية تجاه حلف شمال الأطلسي. وخلافاً لمختلف الاتهامات التي لا أساس لها من الصحة، فإننا لا ننوي استفزاز أي شخص أو بدء حرب مع الناتو. وهذا ببساطة ليس في مصلحتنا الاستراتيجية. بالطبع، أريد أن أصدق أن هناك أشخاصاً واعين و«رؤوساً رصينة» في بروكسل تدرك أن روسيا قادرة على مواجهة أي تحديات وتهديدات، مهما كانت ومن أين أتت.
أعتقد أن لبنان، إلى حد ما، يتمتع بتجربة سياسية مماثلة لروسيا. «بلاد الأرز» دولة قوية الإرادة ومحبة للسلام، وقد تعرضت خلال تطورها التاريخي أيضاً لعدد من التهديدات الخارجية. ومع ذلك، لم تسعَ بيروت أبداً إلى تحقيق طموحات استعمارية، ولم تسعَ إلى «أن تكون صديقة لأحد ضد أحد»، كما هو الحال في حلف شمال الأطلسي الملتزم بروح «انضباط الكتلة».
أما القوى الخارجية فإنها تقوم بتوجيه سيل من الدعاية ومجموعة واسعة من الضغوطات الاقتصادية والسياسية ضد لبنان. ويتم استخدام أي وسيلة لغرض وحيد هو إفقاده لسيادته.
وليس لدي أدنى شك في أن هذه الخطط لن تنجح. لماذا؟ لأن الدولة اللبنانية، مثلها مثل روسيا، تقوم على وحدة التنوع العرقي والطائفي. وقد أثبتت إعادة النظر في تاريخ روسيا الممتد لألف عام، مرة تلو أخرى، أن التماسك الوطني ربما يكون أفضل رد فعل على التهديدات الخارجية.
ولا يسعني إلا أن أغتنم الفرصة لأدعو القوى السياسية اللبنانية إلى العمل من أجل التوصل إلى توافق صلب في مواجهة المحن الجسيمة التي تعاني منها البلاد الآن.
يُنسب إلى الإمبراطور الروسي العظيم ألكسندر الثالث قوله: «روسيا ليس لديها أصدقاء. إنهم خائفون من ضخامتنا». منذ ذلك الحين لم يتغيّر الكثير، ولكن لا يزال لدينا أصدقاء وشركاء – ولبنان، لمن دواعي سروري البالغ، هو واحد منهم. لكن «ضخامتنا» ومكانتنا التاريخية وأهميتنا الجيوسياسية لا تزال تثير غضب بعض العقول المريضة في الغرب. حسناً، لديّ أخبار غير سارة لمن يتمنى لنا السوء: ستظل روسيا كما هي، بغض النظر عن مدى رغبة حلف شمال الأطلسي أو أي معارض آخر في تحقيق العكس.
سيرياهوم نيوز1-الاخبار اللبنانية