يوسف فارس
غزة | انتهى الاستعراض الجوي الذي نفّذه جيش «النشامى» الأردني في مناطق قطاع غزة، بخيبة أمل، ليست مستغربة. فصباح أمس، أبلغ الجانب الأردني مسؤولين فلسطينيين أنه عازم على إنقاذ الأهالي في القطاع، وتحديداً في المناطق الشمالية، من المجاعة، مهما كلّف الأمر. بتلك اللهجة الملحمية المُتخيّلة، دخلت الطائرات الأردنية إلى سماء القطاع، ورفع مئات الآلاف من الجوعى رؤوسهم إلى السماء في انتظار «مطر الشهامة» المرتقب، والذي من المقرّر أن يُغرق البلاد التي يموت أهلها جوعاً، طحيناً وعدساً وبصلاً ومعلبات. مضت الساعات من دون أن يحدث من ذلك شيء، فيما الغريب لم يكن فقط أن مهمّات الإنزال الجوي التزمت بإلقاء المساعدات في حدود مناطق جنوب وادي غزة، مستثنية مناطق الشمال التي تضربها المجاعة فعلياً، وفي هذا التزام حرفي بقرار التجويع والعقاب الجماعي لسكان الشمال الصامدين، إنما أيضاً أن الطائرات التي خاضت هذه المغامرة التي تم التنسيق لها مسبقاً مع جيش الاحتلال، ألقت أطنان المساعدات في عرض بحر غزة، بعدما أعلن الجيش الأردني أنه تمكن من إسقاط مساعدات جوية في 11 موقعاً، جميعها سقطت في عرض البحر.هكذا، انتهت العملية الدونكيشوتية بمشهد أكثر إيلاماً، حيث هرع مئات الآلاف من الجائعين إلى شاطئ بحر غزة الذي تحاصره البوارج والزوارق الحربية الإسرائيلية، وانتظروا حتى ساعات المساء أن يعطف عليهم مد البحر بدفع طرود المساعدات الغارقة إلى الشاطئ. وفي ذورة الحشد، وعندما داهمهم المساء، بدأت زواق الاحتلال إطلاق النار باتجاه الحشود. مشهدٌ يختصر «عمقنا العربي» الذي كان الشاعر اليمني، معاذ الجنيد، قد وصفه بقوله: «عربٌ بُغاة… عربٌ تكشّف قبحهم وبدوا بأعيننا عراة». وفيما يفترس الجوع الأهالي في شمال القطاع، يبيع العرب «النشامى» مواقف البطولة المشفوعة بإذن إسرائيلي، لتعويم تلك الأنظمة وإكسابها المزيد من الشرعية أمام الشعوب النائمة والعاجزة. أما في غزة، فتنفد أعلاف الحيوانات وحشائش الأرض، ويقضي الأطفال يومهم وهم يطلبون الطعام من ذويهم، ولا يحصلون سوى على حبة ليمون واحدة مع القليل من الملح. والمؤذي أكثر، أن سكان القطاع لم يكونوا يوماً جوعى، ولذا فإن مكابدة أنَفة النفوس للتعبير عن حقيقة الواقع، أشد وجعاً من قرصات الجوع.
يوم أمس، زار مراسل «الأخبار» عائلة صديق مغترب، فرفض أهله الذين يسكنون ما تبقى من منزلهم المدمّر، أن تنتهي الزيارة على الباب: «ولو يا رجل، بدون ما تشرب قهوة وتتغدّى والله ما بتروح». هكذا انقضت ساعة ما بين إشعال النار، وتجهيز الطعام والقهوة. وفي غضون ذلك، سأل مراسل «الأخبار» الرجل عن الأحوال، فأجاب: «مستورة الحمد لله، خير الله باسط، والله ما ناقص علينا شي». أحضرت الأم القهوة، ثم الطعام المطهو بماء كرامة هذا العالم كلّه، والذي لم يكن سوى القليل من حشائش الأرض الموسمية. وبعدما حمد الله وشكره، قال الرجل مودعاً: «يا يوسف، بحق دماء أبناء أختك، خبّر أحمد (اسم مستعار) أنك أكلت عندنا لحم وأرزّ… إحنا بخير وما بدنا حدا يهكل همنا».
سيرياهوم نيوز1-الاخبار اللبنانية