| عامر محسن
«… الاحتمالات التاريخية الثلاثة هي ماثلةٌ أمامنا حقّاً (عالم متشظٍّ تحكمه اقطاعيات محلية، عالم «الفاشية الديموقراطية»، وعالمٌ غير مركزي أطرافه متعددون ومتساوون)؛ الخيار سيعتمد على سلوكنا الجماعي على مستوى الكوكب ككلّ في السنوات الخمسين القادمة. ولو تمّ سلوك أيّ من هذه السبل فهذا لن يكون نهاية التّاريخ بل، بمعنى ما، بدايته. العالم الاجتماعي الانساني لا يزال طفلاً صغيراً بالمقاييس الكونيّة… بحلول سنة 3000 قد ننظر إلى حضارتنا الرأسمالية… كمرحلة انحرافٍ واستثناء، ولكنّه انحرافٌ كان ضرورياً من أجل الوصول إلى عالمٍ أكثر عدلاً… أو قد نراها باعتبار أنها كانت نمطاً للاستغلال البشري غير مستقرٍّ بطبعه، عاد بعده العالم إلى أشكالٍ أكثر استقراراً»
[إيمانويل والرستين، 1995]
توجّهت الأنظار، في الأيّام الأخيرة، إلى الصين وهي تدشّن حاملة الطائرات الثالثة في اسطولها (سمّاها الصينيون «فوجيان»، ولكن الخبراء العسكريين يستخدمون غالباً اسمها الرّمزي Type 003، والتسمية هنا لها مغزى). مشروع الحاملات الصينية حالة نموذجيّة عن منهج الصين في المشاريع الكبرى «الستراتيجية» (سواء كان ذلك في انتاج السفن أو القطارات السريعة أو المفاعلات النووية). تراكم، أوّلاً، قاعدة صناعية في المجال الذي تبتغي الخوض فيه، ثمّ تستحصل على تصميم أجنبي، ثمّ تتعلّم أن تستنتسخه بنفسك، ثمّ تطوّره وتبني – اعتماداً على هذه الخبرة – تصاميمك الخاصّة. لهذا السّبب كانت الصين تصرّ على بنود نقل التكنولوجيا وخبرة التصنيع في كلّ العقود مع الشركات الأجنبية.
في أواخر القرن التاسع عشر، حين فكّر القيصر الرّوسي ببناء اسطولٍ حديثٍ يجاري القوى البحرية الأوروبية في المحيطات، طلب استشارةً من يان بلوخ، فكتب الباحث والمنظر العسكري رأياً بمعنى أنّ الحصول على اسطول «مياه زرقاء» ولكنّه أقلّ مستوى من أساطيل القوى الكبرى يعني شيئاً واحداً، هو أنّ هذا الأسطول – في ساعة الحرب – لن يكون أكثر من «رهينة» في يد العدوّ: قطعٌ ثمينة تحاول أن تخبّئها وتحميها من التدمير. والجميع يعرف ما حلّ بالأسطول الروسي عند أوّل محاولة لاستخدامه ضدّ قوة بحري محترفة عام 1905، وكيف كان ذلك بداية سقوط القيصرية. المعادلة ذاتها، بالمناسبة، تنطبق على سلاح الجوّ في دولٍ فقيرة أو صغيرة تواجه تهديداً غربياً (ولهذا السبب أنا ضدّ أن تشتري دول مثل العراق، مثلاً، أي طائرة مقاتلة أغلى ثمناً من «السو-25»).
المعضلة هنا هي أنّ هذه الحالة هي «انتقاليّة» بطبيعتها، والطرفان يودّان التحرّر من «الاعتماد» أوّلاً. الأوروبيون والأميركيون يتحدّثون عن «تقصير سلسلة الانتاج»، ونقل صناعاتٍ إلى دولٍ غير الصين أو إلى بلاد المركز نفسها. والهدف المعلن للقيادة الصينيّة هو أن تكمل عمليّة التنمية وتوزيع الثروة حتّى يصبح لديها سوقٌ داخليُّ ثري وكبير، يكون هو المحرّك الأساسي للنموّ. بمعنى ما، هذه هي «الاستراتيجية» الحقيقية للقيادة الصينيّة على المدى البعيد: أن تصل إلى حالةٍ تشبه حالة الولايات المتحدة الأميركية بعيد الحرب العالمية الثانية. أي أن تكون أكثر الدول كفاءةً وغزارةً في الانتاج وأنت، في الوقت نفسه، لا «تحتاج» إلى التّصدير من أجل أن تعيش. هنا، قد تصبح الصادرات بمثابة «ترف»، تصريف لفائض انتاج تستخدمه في بناء العلاقات والنفوذ حول العالم (كما فعلت أميركا مع القمح والنفط وسلعٍ أخرى في النصف الثاني من القرن العشرين). هنا الهدف النهائي لبيجينغ، وليس «الحرب الفاصلة» مع البحرية الأميركية في بحر الصين الجنوبي – وسنشرح أدناه لماذا من الصعب أصلاً أن تقع مثل هذه الحروب.
نشر الكاتب الأميركي غاري بريكر (اسمه الحقيقي جون دولان) مقالاً طريفاً، يسخر فيه من أيّام مراهقته، في عزّ الحرب الباردة، حين كان هو وجيله مقتنعين بأنّ جحافل الدبابات السوفياتية هي – دوماً – على وشك اجتياح أوروبا الغربيّة. عاش الكاتب ومن حوله حياةً كاملة وهم يتخيّلون «المواجهة» الكبرى، ومن أين ستدخل المدرّعات وماذا سيفعل «الناتو»، وكانت الأفلام تُنتج والروايات تُكتب في تخيّل تلك الواقعة وتصويرها. المشكلة، يقول بريكر، هي أنّ هذه الحرب التي انتظروها طويلاً ما كانت لتحصل وهي، إن حصلت، فلن تأخذ شكل طائرةٍ في مواجهة طائرة وجندي يستهدف دبّابة، بل ستتحوّل بسرعةٍ إلى مواجهةٍ نووية وسحبٍ مشعّة ترتفع في كلّ مكان – وهنا لا يهمّ تقنية الرادار ونوع الدبابة وعيار المدفع. القادة على الجانبين كانوا يفهمون هذه المعادلة، يكتب بريكر، ويخططون لها بصمتٍ بعيداً عن الأضواء، فيما الروائيون يخترعون سيناريوهات مستحيلة لتقديم حرب تظلّ «كلاسيكية» بين «ناتو» و«وارسو» – فمن الصعب أن تكتب رواية أو فيلماً عسكرياً طويلاً عن حربٍ نووية، إلا إن كان على طريقة «ماد ماكس».
بناء هذه المنظومة له جانبٌ عسكري (قد لا يتوقّف عند أوكرانيا) ولكن من ناحيةٍ أخرى، فإن الاختبار الحقيقي لروسيا هو في أن تجعل نفسها – كما الصّين – دولةً «لا يمكن استبدالها»
تعلّم الروس منذ تفكّك الاتحاد السوفياتي أنّ السلاح النووي، وإن أمّن حصانة، فهي حصانةٌ محدودة وغير كافية (والهند وباكستان وإسرائيل كلّها دول لم يعصمها السلاح النووي من أشكالٍ كثيرة من المخاطر). قد يحاولون التدخّل في ساحتك السياسية، قد يحاولون ضربك اقتصادياً وحصارك بالعقوبات، قد يحيطونك بحكومات معادية ونزاعات جانبية لا تنتهي؛ هذه كلّها اختراقات يمكن أن تحصل من دون عبور «الخطّ النووي». من هنا، فمن الطبيعي أن تكون لفلاديمير بوتين، في هذه الحرب، خطّةٌ بعيدة المدى، وأنّه يريد عبرها فرض وقائع جديدةٍ معيّنة على الأرض، لا انتظار وساطةٍ غربيّة أو مخرجٍ له يقدّمه خصومه. أقول أن «خطّة بوتين» هي دفاعيّة الطابع، هدفها توفير «مساحة آمنة» لروسيا ضمن النظام العالمي تكون فيها – على الأقل – في معزلٍ عن التدخلات الخارجية والمخاطر المباشرة على حدودها.
بناء هذه المنظومة له جانبٌ عسكري (قد لا يتوقّف عند أوكرانيا) ولكن من ناحيةٍ أخرى، فإن الاختبار الحقيقي لروسيا هو في أن تجعل نفسها – كما الصّين – دولةً «لا يمكن استبدالها» في النظام الدّولي، ولا يمكن حصارها، وقد يكون هنا المعنى الحقيقي للقوة العظمى. النظرية هنا هي أنّ روسيا تنتج أكثر من عشرة ملايين برميلٍ من النفط يومياً، ولا توجد طاقة احتياطية في العالم تكفي لاستبدالها، وهي «تشرف» على تصدير أكثر نفط كازاخستان. في الوقت ذاته، حققت روسيا في الزراعة شيئاً يشبه ما فعلته الصين في الصناعة، حين تحوّلت إلى أكبر مصدّر حبوبٍ في العالم. الاحتباس الحراري، على ما تقول التقديرات، سيزيد في العقود القادمة من امكانات الزراعة لمساحات واسعة من سيبيريا وشرق روسيا الأقصى. وهو أيضاً قد يجعل روسيا تتحكّم بشريانٍ تجاريّ مهمّ، أي الطريق البحري الشمالي عبر الدائرة القطبية. صحيحٌ أن صادرات روسيا قليلة نسبياً وليست متنوّعة، ولكنها تميل لأن تشكّل نسبةً وازنة من التجارة العالمية في هذه المواد (من الأسمدة إلى التيتانيوم)، وهذا يعني أنّ دول العالم ستحتاجها على الدوام وستضطرّ، بالمقابل، إلى التعامل مع روسيا والتصدير إليها (أي أن النّفط الذي لن تشتريه أوروبا، مثلاً، سيذهب حكماً إلى غيرها بفعل طبيعة السوق). بتعابير أخرى وباختصار، فإنّ الحدث الأساسي في العالم حالياً هو ظهور كتلتين، في روسيا وفي الصين، ينظر إليها الغرب كخصومٍ ولكنه لا يقدر، حتى الآن، على عزلها أو حصارها أو التأثير على القرار السياسي فيها.
خاتمة: «الشّرق» يعود
دخلت في نقاشٍ أخيراً حول سقوط الاتحاد السوفياتي وأسبابه، وأرسل صديق وثائق من مؤتمرات عدم الانحياز في الستينيات، والبيانات التي كانت تسطّر من وفودٍ عديدة من العالم الثالث، بقيادة الصينيين الماويّين، في نقد الاتحاد السوفياتي ودوره في الكتلة. مع المسافة التاريخيّة، يمكن القول بصحّة الاتهام الذي كان يوجّه للسوفيات بأنّهم، بعد سنواتٍ على موت ستالين، كانوا قد قرروا التعايش مع الإمبريالية، بدلاً من المواجهة، والتفاوض معها على «تقاسم العالم». كيف اقتنع هؤلاء القادة بأنّ الإمبريالية ستتعايش معهم و«تتركهم في حالهم» إن هم قرّروا الاسترخاء والتوقّف عن منافستها، والالتفات إلى الإمبراطورية الصغيرة التي اقتطعوها لنفسهم؟ أنا في هذه الحالات أميل لتفسير «المصلحة الاجتماعيّة». وهذه الحالة، بالمناسبة، هي معضلة تواجه كلّ الحركات والمشاريع الصاعدة، وبخاصةٍ إن غاب عنها الجيل الثوريّ الأوّل أو خفت فيها التأثير العقائدي: حين تحقّق النخب – بشكلٍ أو بآخر – طموحها الفردي، فهي ستميل دوماً للحفاظ على الوضع القائم وإن كان غير قابلٍ للاستمرار، أو لم يكن في الصّالح العام.
بمعنى آخر، إن وجدت نفسك قد ارتقيت طبقياً، وأصبحت لديك حياة مهنية تراكم فيها، وأولادك في مدارس خاصّة، ولديك سيارة ومستوى والأمور التي يرغب فيها الفرد العادي، فستكون بطبيعة الحال أقلّ ميلاً لأيّ مخاطرة قد تغيّر هذا الواقع بشكلٍ جذريّ أو تقلبه عليك. هناك كوميدي بريطاني اسمه ريكي جرفيس، يقول في مزيجٍ من الصراحة والوقاحة أنّه حالياً انسانٌ شهيرٌ وثريّ وناجح، وهو إن خُيّر لا يريد أن يختلف مسار العالم بأيّ تفصيلٍ أوصله إلى النقطة التي هو فيها الآن. حتى لو أتيح له أن يعود في الزمن لقتل هتلر قبل ظهور النازية، يضيف جيرفيس، فهو لن يفعل؛ فحياته الحالية جيّدة إلى درجة أنه لا يريد أن يخاطر بأي تعديلٍ في الواقع القائم. هذه العقليّة، إن تُرجمت في السياسة والصراعات، لا يمكن أن توصل إلّا إلى مسارٍ وحيد هو مسار بريجينيف. والمشكلة الأكبر تكون، كما حصل مع السوفيات، هو أن تتسرّب هذه العقلية إلى مركز القرار قبل أن تكون «المعركة»، أو المهمة الأساسية في تأمين مشروعك وكيانك، قد تمّ انجازها بعد.
في عصر العولمة الكثيفة، لا يمكن أن نفهم «خارطة» العالم من دون منظور الاقتصاد السياسي؛ وعبره أيضاً نفهم معنى العلاقة المعقّدة بين الصّين والغرب
وضع الصّين يختلف عن وضع الاتحاد السوفياتي في الحرب الباردة على الكثير من المستويات، منها أنّ الصّين هنا – بعدة معايير – هي «النظام الرأسمالي المتفوّق»، وليس خصمها. من المعروف تاريخياً أن «التجارة الحرّة» هو شعارٌ ترفعه القوى التي تستفيد منه أو تتمكّن من فرضه لصالحها، وقد تغيّر موقفها من هذا «المبدأ» مع تغيّر الأحوال. المثير اليوم هو أنّ الصّين هي التي تناصر التبادل الحرّ غير المسيّس بين الدّول، فيما الغربيون يقفون على المقلب الآخر (جاء في بيان قمّة «بريكس» الأخيرة بندٌ عن أهمية التجارة الحرّة وعدم إعاقة التبادل بين الدّول). الصّين اليوم هي من يصنع الأمور «المفيدة» التي يحتاجها النّاس، وقد يصبح لديك هكذا كتلة كبيرة في أوراسيا، لديها فائض من الموارد والطاقة والغذاء، ولديها فائض من التكنولوجيا والصناعة، ولا يمكن للغرب حصارها أو شنّ الحرب عليها. هذا لا يزال احتمالاً في بدايته ولكن، في عالمٍ كهذا، لا يعود الكلام عن «التوجّه شرقاً» مصدراً للتندّر، إلّا لمن يظنّ أنّه في الوسع أن نأكل الدولار والـ«بيتكوين».