| سعيد محمد
تتوسّع دائرة الإضرابات العمّالية في بريطانيا، وتتّجه، وفق تصريحات النقابيين، إلى مزيد من التصعيد والتعقيد، فيما تستمّر الحكومة في تعنّتها تجاه مَنح أيٍّ من القطاعات المشارِكة زيادة في الأجور، قد تُعدّ نصراً يمكن أن تُوظّفه القطاعات الأخرى للحصول على زيادات مماثلة. والظاهر أن حكومة ريشي سوناك اليمينية تُراهن على عامل الوقت لاستنفاد صناديق النقابات المخصَّصة لتعويض المضربين أجورهم المفقودة، وأيضاً على إمكانية انهيار التأييد الشعبي العام لمطالب العمّال، بينما ترسل بجنود الجيش لتنفيذ مهامّ مدنية لضمان تَوفّر الحدّ الأدنى من الخدمات
لندن | تُواصل الحكومة البريطانية تعنّتها تجاه مطالب العمّال المُضربين الذين يناضلون من أجل الحصول على زيادات دنيا في الأجور، تُعوّضهم تآكل القيمة الحقيقية لدُخولهم التي فقدت ما لا يقلّ عن ثُلث قيمتها – وفق بعض التقديرات -، بسبب تضخّم اقتصادي لم تشهد مِثله المملكة منذ خمسة وسبعين عاماً. ولذلك، فإن الأمور تتّجه الآن إلى مزيد من التصعيد والتعقيد، حيث يُتوقّع أن تُوسّع النقابات من أوقات الإضرابات الجزئيّة التي تُنفذّها، وأن يزداد عدد الأعضاء المنخرطين في هذه التحرّكات. ويشارك عمّال مهنيون وأعضاء نقابات في عدّة قطاعات حيوية من الخدمات العامّة، في موجة إضرابات متزامنة، أعادت إلى الأذهان مرحلة إضرابات عمّال المناجم في سبعينيات القرن الماضي وثمانينياته، والحرب الطبقيّة التي رافقتْها. وما يزال عمّال القطارات في لندن محور الإضراب إلى الآن، لكن قطاعات أخرى تشارك فيه بدورها بصفة جزئيّة، أو هي بصدد المشاركة خلال الأيام والأسابيع المقبلة. كذلك، يَبرز تأثير مشاركة العاملين في القطاع الصحّي، حيث نفّذ عدّة آلاف من طواقم سيّارات الإسعاف توقّفاً عن العمل لـ12 ساعة، ما أضعفَ استجابة نظام الطوارئ البريطاني وقدرته على التعامل مع الحالات العاجلة، على نحو اضطرّ الحكومة إلى استدعاء جنود الجيش لتغطية النقص. كما التحق نحو عشرة آلاف من الممرّضين والممرّضات بدورهم بالإضراب، في سابقة تاريخية – إذ تُعدّ هذه أوّل مشاركة لنقابة التمريض في إضراب عمّالي منذ تأسيسها قبل 106 أعوام -، وهو ما تسبّب بإلغاء آلاف المواعيد الطبّية وتأجيل عدد لم يُحصر بعد من العمليات الجراحية في موسم يزداد فيه الطلب على الخدمات الطبّية بسبب البرد والعطلات. أيضاً، أضربَ عددٌ كبير من موظّفي البريد الملَكي، ما أعاق وصول الطرود البريدية في وقت الذروة السنوي، في حين انسحب موظّفون يعملون مع قوّة أمن الحدود – التي تتولّى التدقيق في وثائق السفر للقادمين عبر المطارات البريطانية – من أعمالهم، وتمّ استبدال عدد منهم بجنود من الجيش تلقّوا تدريبات عاجلة على إدارة نظام العبور والتأشيرات. وتقول نقابات أخرى إنها تتشاور مع قواعدها بشأن انخراطها في الإضراب، ومنها نقابة العاملين في الخدمة المدنية الحكومية، ونقابة المعلّمين، التي صوّت فرعها في اسكتلندا على الشروع في الإضراب مع بداية العام الجديد.
وكان ريشي سوناك، رئيس الوزراء الذي يقود حكومة يمينية من حزب «المحافظين»، قد تعهّد بعدم الرضوخ لـ«ابتزاز» النقابات، وتوعّد باستحداث «قوانين صارمة جديدة» لفرض حدود دنيا من مستويات الخدمة خلال الإضرابات، بل وتجريم مبدأ الإضراب في بعض الظروف. كما طلب سوناك من الوزراء المعنيّين في حكومته استكشاف مجموعة من الخيارات للتعامل مع احتمالات التصعيد. ويتعرّض رئيس الحكومة الجديد لضغوط شديدة من داخل حزبه للتصلّب في مواجهة العمّال، علماً أن «المحافظين» يهيمن على مجلس العموم (النواب) بغالبية مُريحة تسمح له بفرض التشريعات من دون معارضة حقيقية، وتَغلب على كوادره العقيدة النيوليبرالية المتطرّفة في الاقتصاد، والتي تسبّبت خلال خمسين عاماً بتكريس واحد من أسوأ نماذج فقدان العدالة الاجتماعية، وأكبر فجوات الأجور في الاقتصادات المتقدّمة. على أن سوناك قلِق من اتّساع موجة الإضرابات، ووصولها إلى ما يَقرب من حال إضراب عام يشلّ البلاد، في وقت يستمرّ فيه الاقتصاد في الانكماش. ولا شك في أن سيناريو مِثل ذاك، سيكون تأثيره سلبياً بشكل كبير على فُرص «المحافظين» في تجديد سيطرتهم على الحُكم خلال الانتخابات العامّة المقبلة التي ستجري بعد سنتَين (كانون الثاني 2025)، كما وسيقوّي من حُجج الانفصاليين في اسكتلندا وربّما إيرلندا الشمالية أيضاً، حيث تسيطر على برلمانات الإقليمَين أحزاب معارضة. وبحسب تصريحات قادة نقابيين بارزين، فإن الحكومة تبدو غير معنيّة بتفهّم دوافع المُضربين، وهي تكتفي بوعود مبهَمة حول حلول بيروقراطية لمسألة الأجور، وتضغط على الشركات التي تدير بعض القطاعات لمنع عقْد صفقات مع عمّالها المضربين لوقف الإضرابات، خشية أن يَمنح نصرٌ لعدد من هؤلاء مبرّراً لعمّال بقيّة القطاعات للاستمرار في التوقّف عن العمل حتى الحصول على مكاسب مماثلة.
تهدّد النقابات الآن بمدّ مظلّة الإضرابات، بحيث تزيد أوقاتها وأعداد المشاركين فيها
وتهدّد النقابات، الآن، بمدّ مظلّة الإضرابات، بحيث تزيد أوقاتها وأعداد المشاركين فيها. وجدولت أكبر نقابات طواقم الإسعاف، بالفعل، إضرابات ليومَي 11 و23 كانون الثاني المقبل، ستستمرّ 24 ساعة لكلّ منها – أي ضِعف مدّة إضراب الأسبوع الماضي -، وستتّسع المشاركة فيها لتشمل أعداداً أكبر من أطقم الاستجابة المباشرة المرتبطين بخدمة الطوارئ. كذلك، أعلنت نقابة العاملين في التمريض أن لديها خططاً للإضراب تمتدّ لستّة أشهر مقبلة، قد تشمل مضاعفة عدد المشاركين تدريجاً للوصول إلى مائة ألف – أي عشرة أضعاف مَن انخرطوا في حراك الأسبوع الماضي -. وتعاني المنظومة الصحّية البريطانية، وهي آخر معاقل القطاع العام الرئيسة، نقصاً فادحاً في الاستثمار وضغوطاً للتخصيص، في ظلّ توجّه عام لدى «المحافظين» لبيع القطاع بالكامل لمستثمرين أميركيين. ولا شكّ في أن إضرابات العاملين في هذا القطاع ستؤدّي إلى مزيد من الأضرار في قدرة المنظومة على خدمة المواطنين، علماً أن الخبراء يَعتبرون في الأصل الخدمات الصحّية في بريطانيا أسوأ بكثير من مثيلاتها الأوروبية، حيث يتعيّن على المرضى في المملكة الانتظار لستّة اشهر على الأقلّ قبل الاستفادة من خدمات العمليات الجراحية غير العاجلة، مقابل شهرَين أو ثلاثة في ألمانيا أو فرنسا مثلاً.