سعيد محمد
لا تزال المعارضة اليمينية في فنزويلا ترتدي وجهاً شجاعاً، إذ دعت زعيمتها، ماريا كورينا ماتشادو، الفنزويليين إلى «عدم فقدان الأمل»، وإنْ كانت الوقائع على الأرض تشير، استتباعاً، إلى أن مفصل الانتخابات الرئاسية الذي راهنت عليه الولايات المتحدة لإزاحة التشافيزيين من السلطة، قد انصرم بالفعل، من دون أن يتزحزح نيكولاس مادورو من منصبه. وفي المقابل، استنفدت المعارضة أوراقها الواحدة تلو الأخرى، وبلا نتائج تُذكر، ربما سوى سقوط عدد من الفنزويليين قتلى في أعمال عنف مفتعلة، ومضاعفة عدد السجناء السياسيين عشر مرّات (من أقل من 250 شخصاً قبل الانتخابات، إلى أكثر من 2500 بعدها). وفيما تدقّق «المحكمة العليا» (أعلى سلطة قضائية في فنزويلا) في نتائج الانتخابات، يُستبعد أن تأتي النتيجة لغير مصلحة مادورو، علماً أن المعارضة استبقت نظر المحكمة في المسألة، بتجاهلها من حيث المبدأ بوصفها جزءاً من النظام البوليفاري الذي يحكم البلاد منذ 25 عاماً، واستقصد مرشحها، إدموندو غونزاليس، التغيّب عن الجلسة الافتتاحية التي استُدعي إليها المرشحون كافة، كما رؤساء الأحزاب السياسية التي شاركت في الانتخابات.ومع تحييد المسار القضائي، وفشل محاولة إثارة الاضطرابات في بلد لا يزال جيشه وأجهزته الأمنية على ولائهم للنظام الحاكم، فإن المعارضة اليمينية انتهت إلى الرهان على الخارج: دعم الولايات المتحدة، ومحاولات الوساطة الإقليمية التي تقودها الجارة البرازيل، بالإضافة إلى تحريك الجاليات الفنزويلية للضغط على أعصاب النظام في كاراكاس. لكن مآل تلك الرهانات كان الفشل، بفعل قصر نظر المعارضين وعدم نضوج الظروف الجيوبوليتيكية لفرض الإرادة الغربية على الفنزويليين، إذ إن إدارة الرئيس الأميركي، جو بايدن، بدت متردّدة إزاء كيفية التخلّص من مادورو، من دون تكرار مسرحية الاعتراف بزعيم المعارضة، خوان غوايدو، رئيساً إثر انتخابات 2018، خصوصاً بعد تسرّع وزير خارجيتها، أنتوني بلينكن، في الاعتراف بغونزاليس فائزاً في الانتخابات، ما اضطرّ واشنطن لتجاوز تلك التصريحات سريعاً، وإعلان دعمها جهود الوساطة الإقليمية في هذا الخصوص. كما اكتفت بالدعوة إلى تعزيز «الالتزام بالمعايير الديمقراطية في فنزويلا»، من دون أن تتبنّى غونزاليس كرئيس منتخب. كذلك، استبعدت – أقلّه في الوقت الحالي – دعوات إلى إلغاء التراخيص الفردية الممنوحة لشركات النفط والغاز الغربية، والتي تسمح لها بضخ النفط من فنزويلا للتصدير، وكانت مُنحت بعد فرض قيود غربية على استيراد النفط الروسي بسبب النزاع في أوكرانيا.
استبعدت واشنطن دعوات لإلغاء التراخيص الفردية الممنوحة لشركات النفط والغاز الغربية في فنزويلا
لكنّ التوكيل الأميركي لحكومات البرازيل وكولومبيا والمكسيك بالتوسّط باسم «المجتمع الدولي» بين النظام والمعارضة، أفشلته الأخيرة بعدما رفضت ماتشادو علناً اقتراح الرئيس البرازيلي، لويس إيناسيو لولا دا سيلفا، إعادة إجراء الانتخابات الرئاسية بغرض تجاوز النتائج المتنازع عليها التي أفرزتها انتخابات الـ28 من تموز الماضي، وذلك على الرغم من أن الأميركيين أعربوا عن تأييدهم لتلك الفكرة. وقالت ماتشادو، خلال مؤتمر صحافي افتراضي، إن إعادة الانتخابات ستكون «إهانة» للشعب الفنزويلي وتحدّياً لإرادته، فضلاً عن غياب الضمانات بأن النظام سيقبل بنتيجة الإعادة. ويسمح القانون الفنزويلي بإجراء تصويت آخر إذا ألغت «الهيئة العامة للانتخابات» أو السلطات القضائية، انتخابات تبيّن أنها مزوّرة أو كان من المستحيل التيقّن من نتائجها، على أن تُجرى الانتخابات الجديدة في غضون 6 إلى 12 شهراً بنفس شروط التصويت المُلغى، وبالمرشحين أنفسهم. وكان من شأن تبنّي المعارضة لمقترح لولا دا سيلفا هذا، أن يضع مادورو تحت الضغط لخوض مغامرة غير مضمونة العواقب بإعادة الانتخابات، ولا سيما أنه بالكاد حصل على 52% من مجموع الأصوات؛ أو المخاطرة بفقدان تأييد دول الإقليم التي تحكمها حكومات يسار الوسط (البرازيل وكولومبيا والمكسيك)، وهو أمر أساسي يعتمد عليه نظام كاراكاس لمنع عزلة فنزويلا عن محيطها.
وكما عجزت ماتشادو عن اقتناص الفرصة الذهبية التي قدّمها لها لولا دا سيلفا، فإن استراتيجيتها البديلة لإعادة إطلاق الاحتجاجات لا تفلّ من فولاذ النظام، وهي خاطرت بالخروج من مخبئها وقادت تظاهرة ضمّت عدة آلاف في أحد أحياء كاراكاس الراقية. لكن التظاهرة المضادة التي نظّمها أنصار مادورو كانت أكبر بما لا يقاس، فيما تحوّلت المسيرات الموازية في عدة مدن حول العالم، من أستراليا إلى إسبانيا وكذلك في المملكة المتحدة وكندا وكولومبيا والمكسيك والأرجنتين والولايات المتحدة، إلى محض مهرجانات للصراخ.
وبينما تتخبط المعارضة، فإن مرور الوقت يصبّ في مصلحة مادورو، الذي حصل على التبريكات بتجديد انتخابه من أكثر من 40 دولة حول العالم، بما في ذلك روسيا والصين. ولا شكّ في أن قراراً حاسماً من «المحكمة العليا» سيعزّز من ثقته، ما سيترك أمام الولايات المتحدة وأتباعها نافذة محدودة من الوقت لفرض تغيير ما، ستُغلق حتماً في كانون الثاني المقبل لدى أداء مادورو القسم رئيساً لولاية ثالثة.
ومع التحسّن النسبي ولكن المستمرّ في مداخيل البلاد من النفط – بفضل حاجة الغرب إلى بدائل عن النفط الروسي -، فإن النظام سيكون في وضع أفضل لتدعيم قبضته على السلطة، ومحاولة استعادة تأييد الفقراء مجدّداً بعدما أنهكهم الحصار الأميركي – الغربي. لكن مادورو ورفاقه يدركون الآن أن نجاحهم في تأمين استقرار النظام عبر الهيكيلية التنظيمية الفاعلة للأجهزة الأمنية – بما فيها الجيش – لن يكون كافياً للاستمرار في السلطة طويلاً، من دون إحراز تقدّم نوعي في تجاوز اعتماد الاقتصاد الفنزويلي على النفط كمصدر للدخل، وهي نقطة الضعف التي طالما شكّلت كعب أخيل للنظام البوليفاري. على أن تغييراً بنيوياً كذلك يتطلّب إجراءات ذات طابع اشتراكي تمتدّ إلى مختلف القطاعات الاقتصادية – أسوة بما تمّ في القطاع النفطي الذي تديره الدولة -، وهي إجراءات تجنَّب البوليفاريون اتّخاذها طوال 25 عاماً كي لا يستَعْدوا الطبقة البرجوازية ومكوّنات الطبقة الوسطى المرتبطة بالقطاع الخاص، مع إدراكهم اليقيني بغياب رغبة حلفائهم الروس والصينيين في افتعال مواجهة كبرى مع الأميركيين في أميركا اللاتينية.
سيرياهوم نيوز١_الاخبار