علي عواد
الهدف فرض رقابة ثقافية على الأفكار اليسارية ومحو قيم العدالة الاجتماعية واضطهاد الأصوات التضامنية مع فلسطين. هذا هو فحوى قانون «التعليم الحاسم عن الشيوعية» الذي يستعدّ مجلس النواب الأميركي لتمريره. تأتي هذه الخطوة وسط حملة يمينية أوسع لإعادة تشكيل الهوية الأميركية برؤية أحادية بيضاء
بين عامَي 1917 و1920، شهدت الولايات المتحدة موجة من القلق الشديد نتيجة للثورة الروسية التي اندلعت في 1917، ما أثار المخاوف من انتشار الشيوعية والأناركية. هذا الخوف، الذي تزامن مع التغيرات العالمية بعد الحرب العالمية الأولى، جعل الأميركيين يرون في الشيوعية تهديداً مباشراً لنظامهم الرأسمالي. لذلك، بدأت السلطات الأميركية في اتخاذ إجراءات قمعية ضد اليساريين والنقابيين والمهاجرين، ما أدى إلى موجات من الاعتقالات والتحقيقات القانونية وخلق مناخاً من التوتر والخوف.
في الخمسينيات، تكرر هذا السيناريو بشكل أكثر حدة مع بداية «الهلع الأحمر الثاني»، بين عامَي 1947 و1957، في ذروة الحرب الباردة. في تلك المدة، أصبح الخوف من الشيوعية مستشرياً في الأوساط السياسية الأميركية، ما دفع إلى تأسيس «لجنة الأنشطة غير الأميركية» (HUAC) تحت إشراف السيناتور جوزيف مكارثي. بدأ الأخير حملته ضد الأشخاص الذين يُزعم أنهم شيوعيون أو حتى متعاطفون مع الأيديولوجية الشيوعية في ما عرف بعدها بالـ «مكارثية»، ما أسفر عن تحقيقات علنية ومحاكمات شهدت قمعاً وحملات تشهير واسعة ضد عدد من الأفراد. ولم تقتصر هذه الحملات على السياسيين فقط، بل طالت مبدعين ومثقفين وممثلين وشخصيات فنية ومؤثرين، أمثال آرثر ميلر، وبول روبسون، وشارلي شابلن، وحتى القادة الحقوقيين مثل مارتن لوثر كينغ.
مع انتخاب الرئيس الـ 47 للولايات المتحدة دونالد ترامب اليوم، أطلّ مشروع قانون «التعليم الحاسم عن الشيوعية» (H.R. 5349) في محاولة لإعادة استحضار هذا المناخ السياسي ولكن تحت غطاء التعليم. يسعى هذا المشروع، الذي تقوده النائبة ماريا سالازار، إلى فرض منهج تعليمي مناهض للشيوعية في المدارس، بحجة توعية الطلاب حول «جرائم الشيوعية». ولكن، كما كانت عليه الحال في الماضي، يبدو أن الهدف الحقيقي من وراء هذا المشروع ليس مجرد تعليم التاريخ، بل فرض رقابة ثقافية على الأفكار اليسارية ومحو قيم العدالة الاجتماعية.
الهدف منع الصين من
تحدي الهيمنة الأميركية
في النظام العالمي
يستمد القانون جذوره بشكل كبير من إرث الحرب الباردة ومناهضة الشيوعية، وهي حقبة اتسمت بالسعي المستمر إلى القضاء على المشتبه بهم في المعارضة. كانت لجنة الأنشطة غير الأميركية التابعة لمجلس النواب وحملات السناتور جوزيف مكارثي المشهورة بالافتراء تُبرَّر باسم الأمن القومي، ولكن هدفها الحقيقي كان فرض الامتثال الأيديولوجي وإسكات الأصوات التقدمية. النائبة ماريا سالازار (جمهورية عن ولاية فلوريدا)، التي تقود هذا القانون، استلهمت تصميمه من مبادرات تعليم الهولوكوست، واعتبرته واجباً أخلاقياً لتعليم الطلاب عن «جرائم الشيوعيين». ثم إن محاولات تعديل القانون لتضمين دروس حول مخاطر الفاشية وأشكال القمع الأخرى قوبلت بالرفض من قبل أعضاء اللجنة الجمهوريين، ما يوحي بوجود أجندة ضيقة وحزبية تعيد التذكير بحملة مكارثي التي لم تكن مجرد أداة سياسية؛ بل كانت سلاحاً لتأجيج الخوف، ووصم النشطاء والمفكرين والأفراد الذين سعوا إلى تحقيق العدالة العرقية.
من ناحية أخرى، يأتي هذا القانون في وقت يعبّر فيه عدد كبير من الشباب الأميركيين عن دعمهم للأفكار والحركات اليسارية، بما في ذلك التحول الملحوظ في التضامن مع الفلسطينيين. هذا الاتجاه أثار حيرة اليمين الأميركي وغضبه، الذي تواجه سرديته التقليدية عن التحالف غير المشروط بين الولايات المتحدة وإسرائيل مقاومةً متزايدة. من الجامعات إلى منصات التواصل الاجتماعي، يشكك الشباب الأميركيون في السياسة الخارجية الأميركية والرأسمالية. وتُظهر مجمل استطلاعات الرأي أنّ الجيل «z» وجيل الألفية أكثر ميلاً إلى انتقاد السلطة والتعبير عن انفتاحه على المبادئ الاشتراكية.
في مقال نشر في مجلة «جاكوبين» في 2 تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، وقد بدا تنبيهاً لما هو آتٍ أكثر من مجرد مقال، تحدث عن أنّ خطة ترامب المستقبلية تسير في سياق ما يمكن تسميته بـ «الهلع الأحمر الثالث»، وهي حملة قمعية تهدف إلى تدمير اليسار المنظم في الولايات المتحدة. في هذه المرحلة، لا تقتصر الهجمة على فئة معينة، بل تستهدف حركات التضامن مع فلسطين وكل ما هو مرتبط باليسار، إذ أطلق معهد «هيريتج» أخيراً «مشروع إستير» الذي يُعد بمثابة خطة رسمية لـ «محاربة معاداة السامية» عن طريق تجريم الأنشطة السياسية المناهضة لإسرائيل. يصف المشروع حركة التضامن مع فلسطين بأنها جزء من شبكة دعم لـ «حماس»، ويربطها بحركات مناهضة للرأسمالية والديموقراطية (حقوق الفلسطينيين أصبحت خطراً على الرأسمالية، يا للهول)، كما يعرض خطة لتفكيك هذه الحركات في غضون عامين عبر حملات تشويه «قانونية» تهدف إلى إضعاف حقوق النشطاء في التعبير عن آرائهم، بل وشيطنة هذه الحركات.
يشمل المشروع استخدام أدوات قانونية مثل قانون مكافحة الابتزاز (RICO) وقوانين مكافحة الإرهاب وجرائم الكراهية، إضافة إلى تنظيم تحقيقات ضد نشطاء فلسطينيين وحقوقيين. كما يسعى إلى إحياء أساليب قمعية مماثلة لتلك التي استخدمها مكارثي. ويخطط الرئيس ترامب، بمساعدة مؤيديه، لتوسيع هذه الحملة لتشمل مجالات التعليم والإعلام، مع تطهير المدارس من المعلمين والمواد التي لا تتوافق مع أيديولوجيته اليمينية، وإشعال حملة ضدّ «الثوار اليساريين» في الجامعات الأميركية. وقد ألمح ترامب في حينها إلى أن هذا القمع سيتجاوز الحدود القانونية، بل قد يصل إلى استخدام الجيش ضد المحتجين، مستلهماً في ذلك من الإجراءات القمعية التي اتخذت في ظل الاحتجاجات ضد عنف الشرطة ومقتل المواطن جورج فلويد في 2020. يمكن لترامب تسمية الحملة كما يشاء، لكنها عملياً تمهّد الطريق لتبرير تبريد المواجهة مع روسيا وتصعيدها مع الصين، باعتبارها المنافس الأكبر للولايات المتحدة على الساحة العالمية. وقد يشهد العالم تعاظماً في تصوير الصين على أنها تهديد أيديولوجي واقتصادي، بما في ذلك حشد الرأي العام الداخلي والخارجي وتأجيج العقوبات الاقتصادية والتحالفات العسكرية.
ومع أن التركيز الظاهري ينصب على الشيوعية، إلا أن الهدف يتجاوز الأيديولوجيا، ليشمل منع الصين من تحدي الهيمنة الأميركية في النظام العالمي. تسعى الولايات المتحدة إلى استخدام رواية «الخطر الشيوعي» كوسيلة لتبرير استراتيجياتها العدوانية تجاه بكين، سواء عبر فرض المزيد من العقوبات الاقتصادية أو تعزيز التحالفات العسكرية والسياسية في منطقة المحيطين الهندي والهادئ. هذه الاستراتيجيات تهدف ليس فقط إلى كبح صعود الصين، بل إلى دفع الدول الأخرى إلى تبني مواقف أكثر وضوحاً في الاصطفاف السياسي بين الشرق والغرب. ما هو آتٍ صعب وبالغ التعقيد بلا شك، ومن المتوقع أن يُجرّ العالم إلى صراع جديد محوره التنافس على النفوذ والموارد والتكنولوجيا. ومن المرجح أن تجد عدداً من الدول نفسها مجبرة على اتخاذ موقف واضح في هذا الصراع، ما يزيد من الاستقطاب السياسي على الساحة الدولية. في ظل هذا التصعيد، ستتنامى محاولات القوى الكبرى لتجنيد الحلفاء عبر أدوات ضغط اقتصادية وديبلوماسية، ما يعني تفاقم التوترات العالمية. لكن من يعلم؟ ففي خضم فوضى خلط الأوراق، تنبثق الفرص أيضاً. هذا ما ردّده الناجون دائماً.
أخبار سورية الوطن١_الأخبار