آخر الأخبار
الرئيسية » كتاب وآراء » الهيكل الثالث بعظام اللبنانيين

الهيكل الثالث بعظام اللبنانيين

 

 

نبيه البرجي

 

على مرّ الأزمنة لم نر وثنياً يقتل وثنياً لأنه لا يتعبد لوثنه. لكأن الأنبياء نزلوا في هذه المنطقة بالذات فقط، وحيث الأله الواحد، لتفريقنا، ولنقطع رؤوس بعضنا البعض ان بالفؤوس أو بالسواطير. لاحظنا ذلك لدى سقوط صدام حسين. بحجة ملاحقة “فلول النظام” راح “المؤمنون” الشيعة يقتلون السنّة. والآن، بعد سقوط بشار الأسد، بصيحة “الله أكبر”، ولكي يسمع الله، “المؤمنون” السنّة يقتلون العلويين. لا فارق بين عسكري وطبيب ولا فرق بين امرأة وطفل…

 

ثمة ظاهرة غرائبية هنا. العديد من أئمة المساجد، وفي أرجاء البلاد، راحوا يدعون الى “الجهاد ضد المشركين والكفرة”. لا تحسبوا أن ثمة دولة عربية لا تضج بتلك الأنواع من القتلة. هذا في لبنان أيضاً، وبتحريض من ساسة بنوا عروشهم وقصورهم وثرواتهم، من خلال التأجيج الطائفي لنصل الى نظرية الأنكليزي توماس هوبز”الجميع ذئاب الجميع”. مثلما العرب ذئاب العرب، السوريون ذئاب السوريين، اللبنانيون ذئاب اللبنانيين…

 

من هنا، بالذات، خشيتنا من التداعيات الزلزالية للتطبيع الذي قال لنا طبيب بارز أنه بدأ من ميتشغن لا من واشنطن ولا من ميامي. لم نلاحظ أن الاسرائيليين ذئاب الاسرائيليين. في الحروب قد يختلفون في التفاصيل، لكنهم لا يختلفون حول أمن، وحول وجود، اسرائيل. كلهم يبكون قتلاهم. عندنا حفل تشييع قتيل هنا وحفل راقص هناك. عالم السياسة الانكليزي هارولد لاسكي اذ أشار الى دور الارادة المشتركة في صنع الوطن، لاحظ أهمية الأحاسيس المشتركة في بقاء هذا الوطن.

المشكلة ليست في الناس، أو لدى أكثرية الناس. رأينا كيف احتضن المسيحيون، والسنّة، والدروز ، النازحين من الجنوب ومن البقاع ومن الضاحية. شخصياً عشت “الحالة”، وعرفت كيف أن السواتر الترابية التي اقامها ملوك الطوائف انكسرت في لحظة واحدة، كما شخصياً ترعرعت داخل طائفة أخرى. حتى الآن ما زلت أشعر ان العالم بقدر ما هو عقل هو قلب. مسيحيون كثيرون بقلب السيدة العذراء ومسلمون كثيرون بقلب أبي ذر الغفاري. ولكن، ولكن، ولكن…

الآن، الصورة تتضح أكثر فأكثر. تقاطعات دولية واقليمية تشي بأن قطار التطبيع سينطلق مرة أخرى، ليبدو الدفع الأميركي في اتجاه حل مشكلة الحدود بين لبنان واسرائيل على أنه الخطوة ما قبل الأخيرة لازالة الأسلاك الشائكة بين الجنوب اللبناني والشمال الاسرائيلي (ولكن من يزيل جدران الدم ؟). من هي الدولة العربية التي ترفع البندقية في وجه اسرائيل ؟ في قمة بيروت وضع القادة العرب تلك المبادرة الديبلوماسية العرجاء، ودخلوا في الغيبوبة الاستراتيجية، دون أن يوقظهم لا ضجيج الدم في لبنان، وفي غزة، ولا المواقف الصارخة لرئيس الحكومة الاسرائيلية بتغيير الشرق الأوسط.

لا أحد الا ويعلم أي عقل اخطبوطي يحكم المؤسسة اليهودية. اذا حدث التطبيع ونحن في هذه الحال من التشتت الطائفي (وحتى السوسيولوجي)، فهذا يعني أن المؤسسة اياها ستلعب برؤوس أولياء أمرنا مثلما تلعب بحجارة الشطرنج. لا عبقرية لبنانية ولا تميز لبناني. من هنا سؤالنا عن مؤتمر الحوار الذي المزمع عقدها. الأضواء تتركز على “استراتيجية الأمن القومي”، والمقصود نزع سلاح “حزب الله”، وان مع اقرار الجميع باستحالة تحقيق الحد الأدنى (أو ما دون الأدنى) من التوازن العسكري مع اسرائيل وفق المعايير الكلاسيكية المعروفة، وحتى التوازن مع أي قطاع آخر. ثمة أولوية أخرى وهي اعادة هيكلة مؤسسات الدولة لتتسق مع مقتضيات القرن ،مع اقتناعنا بأن الفساد استشرى في القاعدة وربما أكثر بكثير من الفساد في الطبقة العليا من الجمهورية.

 

المشكلة ليست تقنية ولا آنية في حال، المشكلة عضوية، وبنيوية، وحتى وجودية. أن يكون هناك وعي بلبنان، وبالحالة اللبنانية، خصوصاً حين نكون، وتكون معنا المنطقة، على مفترقات تاريخية واستراتيجية، وفي ظل تقاطعات وتناقضات اقليمية ناتجة عن محاولات البعض اعادة الحياة الى أمبراطوريات دفنت منذ أكثر من قرن تحت التراب.

في لبنان نحن في حرب أهلية باردة، بعدما عشنا ويلات الحرب الأهلية الساخنة، ولطالما ذكّرنا بما فعله الاسبان عشية الحرب الأهلية التي جسدها بابلو بيكاسو، بكل أبعادها الأبوكاليبتية، في لوحته الشهيرة “غيرنيكا”، كما أن الشاعر غارسيا لوركا كان ضحيتها بتلك القصيدة التي تحدث فيها عن عبثية أن “تترعرع زهرة النرجس في حذاء الجنرال”، أو في أحذية القتلة. أطراف القتال، أو الاقتتال، وقعوا “ميثاق النسيان” ( Pacto del olvido). الماضي بات وراءهم، الدم وراءهم، الكراهية وراءنا. نخشى أن تكون الصورة عندنا عكس ذلك تماماً…

المشكلة اننا في منطقة لا يعود فيها التاريخ فقط الى الوراء. الزمن أيضاً. ايديولوجيا الحفر في الماضي (وقبور الماضي) بدل تكنولوجيا الحفر في المستقبل (وآفاق المستقبل). تصوروا أي مجلس نيابي سيكون في العام المقبل اذا ما تواصلت التعبئة الطائفية العمياء، ولدى كل الطوائف. بدل اللوياجيرغا القبلية في أفغانستان ،اللوياجيرغا الطائفية في لبنان.

 

التطبيع، والحال هذه، بناء الهيكل لا بأيدي اللبنانيين كما حدث في عهد أحيرام وسليمان، وانما بعظام اللبنانيين…

(أخبار سوريا الوطن ١-الديار)

x

‎قد يُعجبك أيضاً

أنا اتهم …

  هيثم مناع   أنا المواطن في هذا العالم، الذي حرمته عائلة الأسد من رؤية أهله ورفاقه ربع قرن لأنني رفضت الدكتاتورية العسكرية في بلدي، ...