د. سلمان ريا
في زمن ترتجّ فيه خرائط الجغرافيا تحت وقع التفجيرات، وتتقوّض فيه منظومات القيم أمام جشع الأسواق، يتعيّن علينا ألا نكتفي بقراءة الدخان، بل أن نحدّق في موقد النار. ليست الحروب التي نشهدها، من العراق إلى أوكرانيا، من اليمن إلى غزة، مجرد فصول مأساوية في كتاب التاريخ، بل هي أدوات منتظمة في هندسة نظام اقتصادي-مالي عالمي يبحث عن بقاءه بتوليد الأزمات، لا بحلّها. السؤال الكبير الذي يطرح نفسه: هل باتت الحرب أداةً من أدوات الاقتصاد؟ وهل تحوّلت الكارثة إلى ضرورة وظيفية في بنية الهيمنة العالمية؟
منذ لحظة 11 سبتمبر 2001، تغيّرت قواعد اللعب. لم يكن الأمر مجرد رد فعل أمني، بل لحظة تدشين لـ “اقتصاد الكارثة”. باتت الحرب ضرورة دائمة، والحرب على الإرهاب غطاءً مستمرًا لإعادة إنتاج الهيمنة. استخدمت تلك اللحظة التراجيدية لشرعنة احتلالات، لإعادة تشكيل خرائط، لإسقاط دول، وتحويل الجيوش إلى مقاولي أمن ضمن اقتصاد عالمي جديد يقوم على تسليع الخوف وتدوير العنف.
إن النظام المالي العالمي القائم على الدولار، ومن خلفه مؤسسات مثل الفيدرالي الأميركي والبنك الدولي، يعاني من أزمات بنيوية متراكمة. وعندما تشتدّ أزمته، لا يذهب إلى التقشّف بل إلى التصعيد: ضخّ الأموال يتم عبر الإنفاق العسكري، لا الإنتاج الفعلي؛ وتحريك العجلة يتم عبر تسليح الحلفاء وابتزاز الأعداء؛ والحرب، حين تصبح واقعة، تغدو وسيلة لإعادة إنتاج الطلب، والسيطرة على الموارد، وتصدير التضخم.
الحرب بين إيران وإسرائيل لا تخرج عن هذا السياق. ليست هي معركة عقائدية فقط، ولا حتى خلافاً إقليمياً صرفًا، بل فصلٌ في معادلة أكبر: الضغط على إيران لعرقلة الاندماج الآسيوي، دفع المنطقة نحو تطبيع جديد بشروط أميركية، وخلق حالة فوضى مدارة تبرر الوجود العسكري الدائم وتمنع مشاريع الصين مثل الحزام والطريق من الترسّخ. فإسرائيل، في المنظور الاستراتيجي الغربي، ليست مجرد دولة، بل رأس جسر دائم للضغط والتدخل. أما إيران، فرغم عزلتها الظاهرة، تشكّل شوكة في خاصرة مشروع الإخضاع المالي والسياسي الذي يُفرض على المنطقة.
الصين، بقوتها الصاعدة، ليست مهتمة بالتصعيد، لكنها تقرأ ما يجري كحرب تطويق ناعمة ضد مشروعها العالمي. روسيا، من جهتها، تنظر للحرب في غزة ولبنان واليمن كفرصة استراتيجية لكسر المركزية الغربية، ونقل الحرب من الجبهة الأوكرانية إلى فضاءات أخرى. أما دول الجنوب، من البرازيل إلى جنوب أفريقيا، فتفهم أن ما يجري ليس صراعًا محليًا، بل ترجمة ميدانية لصراع المركز والهامش، الرأسمال والتكافؤ، الدولار وأحلام الاستقلال النقدي.
حتى الأوبئة، مثل كوفيد-19، لم تكن خارج هذا الإطار. صحيح أن الفيروس قد لا يكون صُنع عمدًا، لكن إدارة الجائحة، وإغلاق العالم، ثم فتحه عبر أنظمة رقمية ومالية جديدة، تكشف عن البعد الوظيفي للأزمة في إعادة ضبط الإيقاع الاقتصادي العالمي. الأزمات في هذا النظام ليست أعطالًا… إنها جزء من التصميم.
ولا يمكن تجاهل ما جرى في غوانتانامو، حيث تشير تقارير عديدة إلى تدريب وتدوير جماعات جهادية، خرج بعضها لاحقًا باسم “داعش”. الإرهاب، إذًا، لم يكن دوماً نقيضاً للمنظومة، بل أحيانًا أحد أدواتها القذرة: يخلق الفوضى، ويبرر التدخل، ويحوّل الأوطان إلى أسواق سلاح، ويمنع الاستقرار اللازم لأي مشروع تنمية مستقل.
نحن أمام نظام عالمي لا يحكم فقط من خلال الإنتاج، بل من خلال التخريب. يصدّر الحروب كما يصدّر الديون، ويوزّع الفوضى كما يوزّع الدولار. وحين تقترب لحظة الانهيار الداخلي، يُشعل الخارج. الحرب لم تعد خياراً، بل أصبحت “استثمارًا طويل الأجل” في هندسة الخوف والسيطرة.
إن لم تُنتج القوى الصاعدة، كالصين وروسيا ودول الجنوب، بديلاً اقتصاديًا وعدليًا حقيقيًا، فإن النظام القائم سيظل يعيد إنتاج نفسه بالحروب والمجاعات والأوبئة. أما الشعوب، فإما أن تبني وعيًا يعلو على الاستقطاب، أو تظل وقودًا يُحرق في مصانع الهيمنة.
في غزة، كما في بغداد، في دمشق كما في خاركيف، تتكرّر المعادلة: يُدمّر الحجر ليُحفظ الدولار، وتُخنق الأرواح لتتنفّس الأسواق. لكن الحطام لا يدوم للأبد، والخراب، مهما طال، لا يورث شرعية. ربما يكون في وعي الشعوب المستيقظة، لا في بنادق الجيوش، الجواب الأخير على سؤال العدالة.
(موقع اخبار سوريا الوطن-2)