آخر الأخبار
الرئيسية » ثقافة وفن » الهَوَوي والسياسي: سوريا بوصفها «مُختبراً»

الهَوَوي والسياسي: سوريا بوصفها «مُختبراً»

 

عقيل سعيد محفوض

 

 

إنّ سؤال الهوية هو سؤال سياسي، من قبل ومن بعد، وهو إلى ذلك سؤال ثقافي وأنثروبولوجي وتاريخي واجتماعي واقتصادي. والسياسة هي، في جانب مهم منها، صراع على المعنى والهوية، وصراع من أجل «إثبات الذات» و«الاعتراف». وبالتالي، فإنّ الابتعاد عن سؤال الهوية وأبعاده وإكراهاته السياسية والثقافية في حالة سورية أمر طموح لدرجة المبالغة! كيف لا، ولولا اندلاع الاحتجاج والصراع والحرب، لكان من الصعب طرح السؤال؟ كما أن الإفراط في الحديث عن الهوية، لا يسهم في حلحلة العقد الهووية المستحكمة في المشهد، بل تعزّزه، في حال حدث ذلك من منطلق طائفي وإقصائي.

 

بالجمع وليس المفرد

وغالباً ما يكون الحديث عن «السياسي» في الهوية، بصيغة الجمع وليس المفرد، يُقال: سياسات الهوية، وذلك ليس لأن الجماعات أو المجتمعات أو النداءات تتداخل في ما بينها، وتتضمن هويات (واتجاهات هوية) كثيرة ومتعددة فقط، وإنما لأن كل هوية تنطوي على هويات متعددة أيضاً، بما في ذلك على مستوى الأفراد. فضلاً عن أن الهوية متغيرة ومتبدلة، وفي كل هوية طبقات واتجاهات معنى وقوة وتَشَكُّل وتَمَثُّل…الخ، متعددة ومتفاوتة التأثير.

 

ويمكن الحديث أيضاً عن «الهووي» في السياسات. ويحدث أن تتنازع فواعل السياسة والاجتماع والفكر على معنى الهوية، في نوع من «المزاودة المحاكاتية»، بتعبير مستعار من بيير بورديو، أي مَن الذي يمثّل الهوية لدى العرب أكثر من غيره؟ وينسحب ذلك على الكرد والترك وغيرهما، كما تحدث تجاذبات ومنافسات و«مزاودات محاكاتية» حول «مَن» يمثّل الإسلام أكثر من غيره: السنّة أم الشيعة؟ و«مَن» يمثّل السنّة أكثر مِن غيرها (مِن السنّة). ومثل ذلك بالنسبة إلى الجماعات الدينية الطائفية المختلفة.

 

«استعارة مجازية»

يشغل موضوع الهوية الدراسات السورية والعربية بشكل وسواسي تقريباً، ليس في باب تفسير ما حدث من توترات وانتفاضات وثورات وحروب فقط، وإنما في باب إدارة الصراع والحرب أيضاً. وأصبحت الهوية «استعارة مجازية» تكثف –في جانب منها- أحد أكثر مداخل التحليل والتفسير شيوعاً، و«كلمة مفتاحية» في تقديرات وخطط ورهانات سوريا (2011-2024) وما بعد الأسد، وخاصة في موضوعات مثل: طبيعة المجتمع، والدين والظاهرة الدينية، والعلمنة، وطبيعة النظام السياسي (مركزي، لا مركزي)، والحقوق الثقافية، والسلام الاجتماعي، وحقوق والإنسان، والديموقراطية، والنسوية والطفولة… إلخ.

 

سوريا بوصفها «مختبراً»

تمثّل سوريا «مختبراً» للأفكار والمقاربات حول الهوية: لماذا انفجرت الهويات في البلاد، وطغى السياسي على المعرفي والقيمي في مقاربات الظاهرة السورية وفي خطاب الهوية؟ ولماذا ارتفع «بارومتر» الهوية بشكل حاد نسبياً، كما لو أن الناس يكتشفون للتو/ راهناً هوياتهم الدينية والطائفية؟ ولماذا انفجر العنف الطائفي، والعنف الاجتماعي، بشكل كبير وخطير؟ ولماذا يغرق مجال الاتصال والتواصل الاجتماعي في سوريا بقدر غير مسبوق من العنف الرمزي والكراهية والحض على القتل والإبادة الطائفية والعرقية، وحتى الثقافية والسياسية؟

 

وإذا كانت سوريا مختبراً لطرح الأسئلة واقتراح إجابات عنها، فهي أيضاً حيّز لاختبار مقولات وتجريب مقاربات مختلفة بشأن الهوية والتفاعلات الاجتماعية وأنماط القيم المتعددة والمتغيرة في الظاهرة السورية. وأمام الباحثين والمتابعين للحدث السوري الكثير من المفردات والموضوعات الواجبة البحث والتفكير.

 

ويتخذ موضوع الهوية مقاماً كبيراً ويشغل موقعاً متقدّماً في الظاهرة السورية. وثمة مؤشرات متناقضة على معنى الهوية ودورها في تجاذبات الحدث السوري. انظر في خطاب ورموز وعناوين مختلف الأطراف، السوريين على نحو خاص، تجد طيفاً واسعاً من المفردات والعناوين والرموز والأعلام والتسميات التي تمتح من مخزون ثقافي ورمزي وذاكرة اجتماعية وتاريخية بالغة الحيوية والشبوب، لدرجة أصبحت الهوية أحد أهم عوامل الاستقطاب والتعضيد لفواعل الاجتماع والسياسة والعسكرة في البلاد، بكل التداخلات والتخارجات الحاصلة والممكنة في أفق سوريا والإقليم (والعالم).

 

دراسات الحرب

لكن أكثر الحديث حول الهوية جاء من منظور «دراسات الصراع والحرب»، أكثر منها «الدراسات الثقافية». صحيح أن المفردات والعناوين متشابهة بين المنظورين: الدين والطائفية وأزمة الهويات، التعددية الثقافية والاجتماعية… إلا أن المقاربة المعرفية وبؤرة التركيز وخط المعنى والأفق مختلف. ولو أنه لم تظهر الكثير من القراءات التي تتخذ من «التحليل الثقافي» منهجاً في دراسة الحدث السوري.

 

وهكذا، بدت الهوية «مدخلاً» للصراع والحرب، و«مخرجاً» لها في الوقت نفسه. ولم يكن بالإمكان إخراج معطيات الهوية من «تخندقات» الحرب، ليس داخل البلاد فقط، وإنما خارجها أيضاً، بكل التداخلات القائمة والمحتملة بهذا الخصوص. وحضر الدين والعامل الديني والثقافي والتاريخي في اصطفافات الصراع بشكل لا مثيل له تقريباً، وتم تخصيص أو توظيف رأسمال رمزي (أو هووي) كبير من قبل مختلف الأطراف: الرموز الدينية، والتسميات، والنصوص المقدسة، والتأويلات والفتاوى، والسرديات الدينية والطائفية… وظهر خلال سجالات الصراع أن الملائكة تحارب أيضاً إلى جانب الأطراف!

 

السيولة والتدفقات

والآن، هل من معنى اليوم للتفكير في الهوية في عالم تداخلت فيه المعاني وقيم الانتماء والولاء، وتلاشت فيه أو تكاد الحدود بين «الأنا» و«الآخر»، وتراجعت فيه فكرة «الوطن» و«الدولة»؟ وهل يمكن الحديث عن ديناميات المعنى ورهانات الهوية، وقد جعلها الزمان العالمي اليوم مبعثرةً وممزقة، متعددة الوجوه أو بألف وجه ووجه (يتحدّث داريوش شايغان عن أربعين وجهاً ووجهاً). وبالغة السيولة وصعبة التعيين (يتحدّث زيجمونت باومان عن عالم سائل وحياة سائلة، زمن سائل…إلخ). بل هويات مقاتلة (يتحدّث أمين معلوف عن هويات قاتلة). وزائفة، ليس بمعنى أنها غير صحيحة أو غير حقيقية فقط، وإنما بمعنى أنها متخيّلة (يتحدّث بندكت أندرسون عن جماعات متخيّلة). ومصنوعة قصدياً (يتحدّث فاضل الربيعي عن صناعة الهويّات الزائفة)؟

 

في الختام، إن الصدوع بين التكوينات الاجتماعية والهووية في سوريا كبيرة، بل هي في ازدياد، لدرجة أمسى من الصعب معها مجرد التفكير في المشتركات وتجسير الفجوات في ما بينها. وليس من المتوقّع التوصل إلى حلّ ناجزٍ للتخندقات والصراعات الهووية (أو التي تتّخذ طابعاً هووياً)، إلا بالحد من «تسييس» الهويات والانتماءات ما دون الدولة، وضبط «أدينة» السياسة ومذهبتها أو تطييفها… والسير في أفق المواطنة.

 

وتمثّل سورياً مختبراً (قل: فرصة) لاختبار التأثير المتبادل بين الهووي والسياسي في تجاذبات الظاهرة السورية واصطفافاتها ورهانات مختلف فواعلها، السوريين وغير السوريين. واختبار قدرة السوريين على مقاومة المدارك المتداولة عن أنفسهم وعن الإقليم والعالم، وقدرتهم على معرفة الواقع، وقراءة التكوين الاجتماعي، والاستجابة لتحديات بناء هوية وطنية عابرة للتكوينات والجماعات والمناطق، في أفق مجتمع ودولة قابلين للاستقرار والاستمرار.

* كاتب سوري

 

 

 

 

أخبار سوريا الوطن١ الأخبار

x

‎قد يُعجبك أيضاً

لا أهلاً ولا سهلاً بـ«كابتن أميركا»

  دعت حملة «مقاطعة داعمي «إسرائيل» في لبنان»، إلى مقاطعة فيلم «كابتن أميركا: عالم جديد شُجاع». أشارت الحملة إلى أنّ الفيلم الذي طُرح أخيراً في ...