مايا حمادة
انتمى الأديب والطبيب «عبد السلام العجيلي» إلى جيل العظماء في سورية وعصر النهضة الجميل المتمثل بملامسته لقضاياه ومعالجتها بنظرة ثاقبة فيها كل الحكمة وقمة الشفافية، هو الكاتب المثقف الذي أغنى حياته الأدبية من خلال تجربته في الحياة والأحداث التي كان شاهداً عليها سواء على الصعيد الاجتماعي أم السياسي والثقافي جعلت منه موسوعة في السرد والوصف محافظاً فيها على القيم في كتابة قصصه ورواياته حيث كان يعالج المشكلات في أدبه وكأنه يعالج مرضاه ليكسب ثقة كبيرة من حوله من الناس وليجدوا عنده الدواء لأجسادهم ونفوسهم، هو الحكيم المخلص قبل أن يكون الأديب إذ جمع في ذاته كإنسان عدة شخصيات، فكان الأديب والطبيب الحاذق والبدوي الذي تمسك بالبيداء كملاذ أساسي في إبداعه الفكري، وهو الوطني الذي زار مدناً وعواصم عدة فاستقى منها الكثير من الثقافات، والإنسان العربي الأصيل لطالما نادى بالقومية العربية في كل زمان ومكان.
نقل مدينته من المحلية إلى العالمية
يتكلم عن مدينته في أكثر كتاباته ويصفها بدقة متناهية وبأجوائها الواقعية الصادقة وتحلت تعابيره عن بيئة الرقة في عدة وقائع مختلفة التي كان شاهداً عليها من خلال ظروف عمله كطبيب، وهذا ما جعل عنده نوعاً من التكامل بين ثقافته وفكره ومهنته الأساسية وهي الطب، وعندما بدأ الحراك الثقافي بالمدينة وأصبح نظاماً مؤسساتياً ينظم ذلك الحراك، عُتب على العجيلي قلة نشاطه الثقافي بمدينته فأجاب: إنه عندما أعتلي المنابر الثقافية في الخارج يتمحور حديثي فيها عن عظمة المدينة وجمالها، أما الأهل في الرقة فبماذا أحدثهم؟ لذلك لم يكن يحبذ تقديم نفسه كاتباً وشاعراً وروائياً وقاصاً لأبناء مدينته وإنما حضوره تجلى بشخص الطبيب، لذلك اختار الأدب هواية يلجأ لها في وقت فراغه، أما الطب فهو مهنته الأساسية التي كان يعتاش منها، شهد د.«عبد السلام العجيلي على كل ما جرى بتاريخ الرقة الحديث، والذي بدأ معها ببويتات متناثرة داخل سور المدينة بقرب السرايا الحكومية، لتصبح فيما بعد مدينة كبيرة تكاد تنافس أكبر المدن السورية قبل أن تعصف بها أحداث مؤسفة ومثيرة للشجن، فأحبت الرقة ابنها البار الذي نقل اسمها للعديد من المنابر العالمية والعربية، ولعل أبرزها حديثه عن حقوق الإنسان في منبر الأمم المتحدة والذي تحدث فيه عن حقوق الإنسان ووضعه العالمي، وتركزت أبرز تلك الأحاديث من خلال ما ورد في محاضرته المعروفة «الرقة بلدتي» المنشورة بكتابه محطات في الحياة، وشارك د. «العجيلي» في الكثير من الفعاليات الثقافية الرقاوية، منها الندوة الدولية لتاريخ الرقة بالإضافة لمشاركته بأعداد كتاب (الرقة درة الفرات) متحدثاً فيه عن بعض الأحداث التاريخية والشخصيات الاجتماعية في المدينة، فأجلّت الرقة ذلك الرجل العالم الداري الطبيب المجيد للغتين الإنكليزية والفرنسية إلى جانب لغته الأم والمعروف أدبياً وعلمياً وسياسياً ليتم إطلاق اسمه على أحد شوارعها الرابط بين مركز المدينة ونهر الفرات، والذي كان يقصده كل صباح لممارسة رياضة المشي حتى سنواته الأخيرة، وما زال مضرب المثل في تلك المدينة بأهلها الطيبين الذين يسعون لجعل أبنائهم يسلكون الطريق الذي سلكه د. «عبد السلام العجيلي» ولاسيما في الجانب الطبي من حياته، وللحقيقة أغلب طلبة الرقة اليوم يدرسون ويبحثون في الطب أينما حلوا.
التطلع إلى آفاق ثقافية رحبة خارج الحدود
ثلاث وزارات متعاقبة دخلها د. «عبد السلام العجيلي» بفترة قصيرة وهي (الثقافة والخارجية والإعلام) في سورية، التقى خلاها شخصيات فنية وأدبية اشتهرت بتلك الحقبة عربياً ثم تتالت تلك العلاقات لتصل إلى العلاقة المتينة التي كانت تربطه مع الثنائي «الرحابنة وفيروز»، والتي يرويها في أكثر من كتاب له ومنها عندما أقاموا حفلاً بمعرض دمشق الدولي نظروا إلى الصفوف الأمامية ولم بجدوه، قطعوا الحفل وسألوا عنه وتبين أنه جاء متأخراً وجلس في الصفوف الخلفية مع زوجته فطلبوا منه فضلاً التقدم إلى الصف الأول ليتابعوا فعاليات حفلتهم. عرف «العجيلي» بمواقفه الوطنية والقومية الصارمة وتعلقه ببلده سورية محاطاً بأبناء قريته الذين طببهم وشفاهم غير آبه بالشهرة يوماً أو راغباً عن سابق إصرار في بتسلم المناصب، حيث تحدث عن ذلك في جزأي كتابه «ذكريات أيام السياسة» ملياً والذي اعتكفها بوقت مبكر كما تحدث عن بعض الشخصيات التي التقاها أيام ممارسته للسلطة وبعد ذلك رغبت شخصيات أدبية كبيرة المجيء لمدينة الرقة والتعرف عليها عن كثب ورؤية العجيلي، ولعل أبرز تلك الزيارات زيارة الشاعر «نزار قباني له عام 1978 الذي جمعته به ذكريات شتى تمثلت في تكليف الشاعر نزار قباني بالعمل في السفارة السورية في إسبانيا في أثناء تولي العجيلي لوزارة الخارجية، ومن هناك بعث القباني برسالته المعروفة «من إسبانيا قال فيها: «العجيلي أروع بدوي عرفته الصحراء، وأروع صحراوي عرفته المدينة»، كما كان حاضراً لزيارة الروائي العربي «عبد الرحمن منيف» والكثير من الشخصيات السياسية والآثارية والاجتماعية والفنية التي جاءت للرقة بغية اللقاء بالدكتور عبد السلام العجيلي.
وعرف العجيلي قطرياً وعربياً وعالمياً كأديب وقاص وشاعر مؤثر له حركة علاقات ومعارف واتصال دائم بعدة عواصم في تلك الرحلة الأدبية التي استمرت زهاء ستة عقود مضت بدأها بقصة «نومان» التي نشرتها يومها إحدى الصحف المصرية، وكتب فيها روايات عدة أشهرها «المغمورون» تلك الرواية التي تحدث فيها عن بحيرة سد الفرات التي غمرت أراضيهم، وتلك القرى النموذجية التي بنيت لهم في ريف مدينة الرقة ومن ثم نقلهم إلى مناطق حدودية ليصبحوا بذلك مغمورين، إضافة إلى «باسمة بين الدموع» الرواية التي مثلت كفيلم سينمائي تحدث فيها عن ذلك البطل القادم من بيئة ريفية إلى المدينة وقصة الحب التي جمعت ابن الريف مع بنت المدينة و«أرض السياد» و«قلوب على الأسلاك» بالاشتراك مع أنور قصيبات.
منارة للأجيال في القصة القصيرة
برع د. «عبد السلام العجيلي» بكتابة القصة القصيرة وبقدرة استثنائية عملت على جذب القراء ضمن إطار الحكاية يتفاعلون معها بعمق الزمان والمكان، وهدف دوماً لتثقيف الناس وبلسمة جراحهم، وقال عنه في ذلك «يوسف إدريس» بأن عبد السلام العجيلي رائد القصة القصيرة في الأدب العربي، كما كتب القصة الطويلة والحكايات التي استوحى أغلبها من حكايات سمعها في بيئة الرقة وبعضها الآخر من رواد عيادته الطبية في مدينة الرقة، ضمن نتاجات أدبية مثل «عيادة في الريف وحكايات طبية ومحطات في الحياة وأحاديث العشيات» وتعد مجموعته القصصية «بنت الساحرة-1948» نقلة تاريخية قدمها د. «العجيلي» في مجال القصة القصيرة بسورية، كما تحدث عن رحلاته في دول عدة ولاسيما في كتابته حكايات من الرحلات ودعوة إلى السفر، كما كتب المقامة والشعر وقد جمعها في ديوانه الوحيد «الليالي والنجوم»، والذي كان من بواكير أعماله الأدبية، تم طرح الكثير من أعماله الأدبية لدخول باب الفن والتمثيل وجسد البعض منها لكن رغبة «العجيلي» حالت دون ذلك، لكن الذي مُثل منها لم يطلع عليه ولم يثر اهتمامه ذلك، بل عمل على تكوين دعائم السرد التقليدي المبدع في سورية من قصة ورواية بأسلوب الحكاية التي مازالت تتدفق إلى الذاكرة بلغة القاص الحكيم.
يذكر أن الأديب والحكيم «عبد السلام العجيلي» صدر له نحو أربعة وأربعين نتاجاً أدبياً وفكرياً منها «فلسطينيات عبد السلام العجيلي، ادفع بالتي هي أحسن، أحاديث طبيب، خواطر مسافر، في كل وادٍ عصا، السيف والتابوت، أزاهير تشرين المدماة، ألوان الحب الثلاثة وغيرها الكثير الكثير.
سيرياهوم نيوز1-الوطن