د. سلمان ريا
في أزمنة الانغلاق، يصبح السؤال جريمة، ويُعامل التفكير كما لو كان خروجًا على الطاعة.
لكنّ التاريخ لا ينهض إلا حين يجرؤ العقل على الكلام، وحين يستعيد الإنسان حقّه في أن يفهم قبل أن يؤمن، وأن يختار قبل أن يخضع.
ليست حرية التفكير ترفًا ولا نزوة، بل هي حقّ الوعي في أن يرى.
فالعقل الذي خُلق ليُضيء، لا يجوز أن يُطفأ باسم القداسة.
والإيمان الذي يُبنى على الخوف لا يصمد طويلًا، لأنّ ما يُزرع تحت التهديد لا يُثمر صدقًا، بل يُنتج طاعةً عمياء تشبه الموت البطيء للعقل.
منذ أن قيلت الكلمة الأولى في الوحي: “اقرأ”، بدأ طريق الحرية.
كانت تلك الدعوة نداءً إلى الفهم، لا أمرًا بالسكوت؛ إلى النظر في الوجود، لا إلى الهروب منه.
وحين اختُزل الدين في طقوسٍ جامدة، وغابت عنه روح السؤال، تحوّل الإيمان إلى مؤسسةٍ تُدار، بدل أن يبقى تجربةً تُعاش.
في جوهرها، حرية التفكير ليست خروجًا عن الإيمان، بل عودة إليه من طريقٍ أنضج.
فالمؤمن الحقيقي لا يخاف من النور، لأنه من النور وُلد.
إنه يدرك أن الله لا يُعرَف بالخضوع للأوامر وحدها، بل بالقدرة على التأمل، وبالوعي الذي يرى في كلّ فكرةٍ بصمةً من بصمات الخالق.
أما الذين يخافون الفكر، فيخشون في الحقيقة هشاشتهم أمامه.
يخشون أن تنكشف السلطة حين يُسأل النص، وأن تهتزّ الموروثات حين تُقاس بمعيار العقل.
لكنّ الخوف لم يكن يومًا وسيلةً لحماية الإيمان، بل طريقًا إلى تحجّره.
فالله لا يُطلب من وراء الأسوار، ولا تُصان القيم بمنع التفكير فيها.
كلّ أمةٍ احترمت العقل نهضت، وكلّ حضارةٍ قمعت الفكر خبت.
ذلك لأنّ السؤال لا يهدم، بل يبني.
ومن يخاف السؤال، يخاف أن يرى الحقيقة خارج المألوف، بينما كلّ تقدمٍ بدأ يوم خرج أحدهم على المألوف بإيمانٍ أشدّ وعيًا.
في الواقع السوري اليوم، نحن في أمسّ الحاجة إلى هذا الإيمان الحرّ؛
إيمانٍ لا يُقصي، ولا يتعصّب، ولا يخاف من الحوار.
لقد أنهكتنا الأيديولوجيات حين صارت بديلاً عن التفكير، وأرهقنا الصراع على “الحقّ” حين فقدنا القدرة على الإصغاء للآخر.
لكنّ الأوطان لا تُبنى بالإكراه، بل بحريةٍ يتقاطع فيها العقل مع الضمير، والإيمان مع الفهم.
إنّ حرية التفكير ليست خصمًا للدين ولا للوطن، بل شرطُ نضجهما معًا.
فالوطن الذي يمنع أبناءه من التفكير، يفقد روحه،
والإيمان الذي يخاف من السؤال، يفقد معناه.
ولعلّ أجمل ما يمكن أن نختم به هو ما يقوله الوعي حين يصفو:
أنّ الله الذي خلق العقل، لم يخلقه ليُطفأ، بل ليُضيء.
فمن يُضيء عقله، يُضيء وطنه أيضًا.
(أخبار سوريا الوطن-2)
syriahomenews أخبار سورية الوطن
