الرئيسية » يومياً ... 100% » الوعي المجتمعي و “الأنا”…

الوعي المجتمعي و “الأنا”…

 

بقلم د. حسن أحمد حسن

 

قد لا أكون موفقاً بالإقدام على الكتابة تحت مثل هذا العنوان الإشكالي المتضمن العديد من الحفر والمطبات التي قد لا تحمد عقباها لسبب أو لآخر، لكن التردد حُسِمَ لصالح اليقين بأهميته الموضوع وضرورة تناوله بعلمية وجرأة تساهم في نفض بعض الغبار المتراكم، مع اليقين أن كل ما يتعلق بالمجتمع من ظواهر وتفاعلات يرتكز في تكوينه على بعد تركيبي متعدد الطبقات والمستويات، وبغير ذلك لا يكون مجتمعياً، وهذا يصعّب موضوع الكتابة أكثر، ويمكن باختصار شديد الإشارة إلى بعض العناوين الرئيسة والأفكار المفتاحية التي قد تساعد على تفكيك الصورة المركبة لتصبح أقرب إلى الفهم، ومنها:

• أهمية التمييز بين المصطلحات المتقاربة، وبخاصة بين الوعي المجتمعي والنضج المجتمعي، فالنضج مرحلة تالية متقدمة وأكثر أهمية، لكنها مرتبطة بالوعي وتستند إليه، وقد يتوفر الوعي من دون النضج، لكن لا نضج من دون وعي، وبكلمات أخرى إذا كان الوعي المجتمعي يحصّن المجتمع والدولة من أخطار مختلفة الشدة والدرجة، فالنضج هو الذي يمكّن المجتمع والدولة من الاستثمار في حالة الوعي بعد تشكلها وتبلور مكوناتها.

• ارتباطاً بالنقطة السابقة أسوق مثالاً توضيحياً خاصاً بنا نحن السوريين، فلولا توفر الوعي المجتمعي بدرجة مقبولة لما استطاعت الدولة السورية الصمود، ولما كان بالإمكان الوقوف في وجه الأعاصير التي حملتها الحرب القذرة المفروضة على سورية منذ 2011م، وفي الوقت نفسه لو كان هذا الوعي المجتمعي مبنياً ومضموناً بما فيه الكفاية لما انجرفت تلك الأعداد التي لا يستهان بها من السوريين في تيار الإغراءات الخلبية والوعود التي ثبت أنها كاذبة، وقد أشار السيد الرئيس بشار الأسد إلى هذا الأمر بشيء من التفصيل في أحد لقاءاته السابقة منذ زمن غير بعيد، وهنا يأتي دور النضج المجتمعي للاستثمار في منتج الوعي الذي أثمر الصمود، والانتقال إلى مرحلة أسرع من التعافي، وبلسمة النتوءات وأماكن الكيّ الممنهج للوعي الذي تأذى بدرجات متفاوتة، والنضج المجتمعي وحده القادر على إسدال الستار على ما سبق، وبدء صفحة جديدة قابلة لتتضمن في مكوناتها الكثير من الأمل الموضوعي القابل للتبلور.

• مثال آخر أسوقه من الواقع الذي نعيشه والمتعلق باستحقاق دستوري خاص بالانتخابات النيابية، فتوفر النضج المجتمعي هو المعادل الموضوعي شبه الوحيد والضامن الأهم لاختيار الأكفأ والأجدر ليكون تحت قبة مجلس الشعب، وهذا الأمر ليس مضموناً كفاية للاطمئنان، وبغض النظر عن مدى دقة الملاحظات التي يتم تناقلها في الشارع وعلى بعض وسائل التواصل الاجتماعي يمكن القول: إن الوعي المجتمعي بأهمية المشاركة خلق ديناميكية فاعلة في عملية الاستئناس الحزبي، وهذا بحد ذاته أحد المعطيات المهمة التي يمكن البناء عليها، لكن للبدء بالبناء والاستثمار الناجع فيما تم إنجازه يجب ضمان توفر النضج المجتمعي الذي يدفع الناخب في اليوم المحدد لموعد الانتخابات النيابية لتلافي الملاحظات والإشكالات التي ظهرت والإيمان بأهمية صوته في الصندوق، وبقدر ما يكون موضوعياً وبعيداً عن الظواهر المرضية التي تسبب الشكوى بقدر ما يكون المجلس القادم أكثر قدرة على الاضطلاع بدوره الدستوري، وبخاصة ما يتعلق بمتابعة أداء الحكومة ومساءلة أي جهة يثبت تقصيرها أو قلة كفاءتها في العمل بمسؤولية تقود إلى إنجاز وليس إلى تبرير القصور.

• النضج المجتمعي ليس قالباً جاهزاً يمكن شراؤه أو استيراده، ولا هو حقنة تعطى بالعضل أو الوريد، بل عملية ممنهجة تتطلب توفير شروطها ومقوماتها الضرورية، كما تتطلب التشمير عن ساعد الجد، والاستعداد لبذل الكثير من الجهود المتكاملة وفق بوصلة المردوية، وهذه مسؤولية مجتمعية، وليست حكومية فقط، بل قد تكون مسؤولية النخب الفكرية والحزبية والمجتمعية والإعلامية تفوق المسؤولية الرسمية الملقاة على عاتق هذه الجهة أو تلك من مفاصل العمل الحكومي، وهنا تظهر عقبة “الأنا” المتورمة مرضياً، وليس من الحكمة تجاهل هذا الأمر، فأكثر الأصوات ارتفاعاً وحدة وجرأة سرعان ما يخفت إن لم يكن مشمولاً بشغل هذا المفصل أو ذاك، ويصل الأمر أحياناً إلى قناعة داخلية ــ على أقل تقدير ــــ بأن تفعيل الدينامية المطلوبة لتقليل سلبيات الواقع مرتبط بتكليف هذا الشخص أو ذاك ليكون جزءاً من فريق العمل، مع أن الدور الذي يمكن أن يضطلع به كشخص ضمن العاملين في تشكل الرأي العام وتوجيهه أكثر أهمية من أي دور يكلف به رسمياً لتنفيذ مهمة محددة ومتعلقة بهذا الجانب أو ذاك.

• من نقاط الوجع أيضاً المتعلقة بـ “الأنا” المتضخمة والتي تؤثر سلباً على الأداء والمردودية، وبالتالي تؤخر تبلور النضج المجتمعي تضخم “الأنا” ومنطق “الأستذة” على الجميع، والسماح للنفس بتصويب آراء الآخر حتى ضمن اختصاصه العلمي واهتمامه الذاتي، وهذا يعني النظرة الاستعلائية على الآخرين مع المعرفة المسبقة بأنهم أطول باعاً، وأعمق اطلاعاً، وأغنى خبرة ومعرفة ممن يروق لهم منطق الأستذة، ومثل هذه الظاهرة قد تكون منتشرة في غالبية دول المشرق، ولا يمكن وضع الأقدام على الدرجة الأولى في سلم النضج المجتمعي إلا بتجاوز ذلك عبر التواصل الخلاق مع الآخر، وإشعاره بأهميته، والاعتراف بما لديه وما قدمه أو يقدمه، وهذا يقودني إلى نقطة أخرى متداخلة مع هذا العنوان وهي التدرج في صعود سلم النضج المجتمعي برصد الواقع موضوعياً كما هو بسلبياته وإيجابياته، وتحديد نقاط الوهن والقوة والأهداف المطلوب بلوغها، والبدء بالتواصل الشفاف والصريح بعيداً عن المداهنة أو التمترس وراء قناعات لا يخلو بعضها من حقد مرضي أفرزته فصول الحرب وتداعياتها، فالتواصل والشفافية بوعي ومسؤولية يسبقان الحوار، ومعاً يتم تمهيد الطريق لتوسيع دائرة النضج المجتمعي.

• مثال آخر أسوقه للتمييز بين الوعي المجتمعي والنضج المجتمعي و”الأنا” المرضية، فالغالبية يبرعون في الحديث عن الفساد وأهمية استئصاله والقضاء عليه، ويصل الأمر ببعضهم للتركيز على نصب المشانق، وكأن الفساد كائنُ جامدٌ يمكن بيسر وسهولة تحديد مواقعه وأنصاره وفرزهم تمهيداً لحصرهم ووضع رقابهم تحت سيف المساءلة، وأقل ما يقال عن مثل هذا التصور أنه قاصر، فالفساد ظاهرة مركبة متعددة المدخلات والمخرجات، وقد يكون النضج المجتمعي الأكثر نجاعة في مواجهة الفساد وتحييد المفسدين، ولا أظن انه يوجد فاسد في مفاصل العمل المختلفة إلا ويعي خطورة ظاهرة الفساد على المجتمع، لكن هذا الوعي لا يرتقي ليبلغ مرحلة النضج المجتمعي، و”الأنا” المتورمة إلى حدود سرطانية أحياناً تعمي البصيرة عن أهمية “النحن” أي المجتمع فتستشري الظاهرة، ومع مرور الوقت تزداد صعوبة القضاء عليها، والتعامل القاصر على المستوى المجتمعي مع هكذا ظاهرة يحولها إلى ثقافة، وهذه أخطر المراحل التي لا يمكن القضاء عليها إلا بالنضوج المجتمعي.

هذا غيض من فيض مما يمكن كتابته وتناوله بالتشريح التفصيلي، لكن الحجم المحدد للمقال يفرض الاكتفاء بهذا القدر، على أمل أن يكون كحجر تم إلقاؤه في المياه الراكدة فحركها على أقل تقدير، وإن كان غير ذلك فحسبي شرف المحاولة.

(موقع سيرياهوم نيوز-١)

x

‎قد يُعجبك أيضاً

الدول المهددة بوجودها ليست ”مرعوبة” من ”إسرائيل”!!

علي عبود لم تتأثر الأنظمة العربية بعملية الإبادة المستمرة منذ أكثر من ثمانية أشهر ضد الفلسطينيين في غزة والضفة الغربية، بل إن معظمها، وحسب التسريبات ...