فراس عزيز ديب
يبدأ الأوروبيون صباح اليوم بالتوافدِ إلى مراكزِ الاقتراع لانتخابِ ممثليهم في البرلمان الأوروبي، هذه الانتخابات هي المحطة العاشرة في تاريخ المنظمة التي ورثت حلم أوروبا الموحدة والقوية التي مزقتها الحرب العالمية الثانية والحرب اليوغسلافية، إضافة إلى ذلك فهي –والأهم- الانتخابات الأولى التي تجري بعد خروج أحد أهم القوى الاقتصادية والعسكرية من الاتحاد وهي بريطانيا بتصويت البريطانيين أنفسهم.
وبالعودة لتاريخ هذا «العرس الديمقراطي» فإن هذه الانتخابات لم تنجح أبداً باكتساب صفة الأهمية كحدث مفصلي في سياق الصراع السياسي وانتظار النتائج بروح المنافسة التي ستبدل الخريطة السياسية في هذا البلد بل على العكس كان هناك شكوى دائمة من النفقات التي يمثلها وجود هذا البرلمان على الدول الأعضاء بما فيها نفقات السفر والإقامة غير المجانية لدرجة كان هناك من يسخر بأن قرارات هذا البرلمان لا تساوي ربع نفقاته.
بسياقٍ متصل وفي دولةٍ كفرنسا كانت نتائج الانتخابات الأوروبية صورة متقدمة عن نتائج الانتخابات البرلمانية أو الانتخابات الرئاسية، بمعنى أن الفائز بهذه الانتخابات تحديداً في المنافسة بين اليسار واليمين المعتدل سيعني فوزه بباقي الاستحقاقات الانتخابية، وهنا نذكر فرنسا مثالاً وتحديداً لأنها الدولة الوازنة الوحيدة في الاتحاد الأوروبي التي لديها نظام رئاسي وبرلماني في آن معاً يعطي صلاحيات كبيرة لرئيس الجمهورية مع وجود رئيس للحكومة بصلاحيات تحميه على الأقل من الإقالة التعسفية عكس باقي الدول التي يبدو نظامها السياسي برلماناً بحت لا يخلق تنافساً بين الرئيس إن وجد، ورئيس الحكومة.
اليوم لا تبدو هذه الظروف التي همشت سابقاً هذه الانتخابات محققة بل على العكس ليسَ في أوروبا فحسب ولكن على المستوى الدولي تبدو حالة الغليان السياسي والعسكري تهيئ الظروف نحو معركةٍ غير مسبوقة فكيف ذلك؟
«أوروبا لم تكن مهددة بتاريخها كما هي الآن» هذه العبارة قالها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون خلال إطلالته الأخيرة مخاطباً الشعب الفرنسي خصوصاً والأوروبي عموماً، إن تجاوزنا فكرة السؤال عن أي تاريخ يتحدث ماكرون وما إذا كان التاريخ الاستعماري مشمولاً، فإنه يا ترى ما الذي يدفع ماكرون لقول هذا الكلام ورفع سقف التخوفات في ظل ما تعيشه القارة الأوروبية أساساً من أزمات اقتصادية واجتماعية؟
يرى البعض أن هذه التصريحات بدت انتخابية أكثر من كونها وقائع تتجسد على الأرض، بمعنى التحذير من المد المرتفع لليمين المتطرف على كامل التراب الأوروبي وبات فعلياً كابوساً يهدد الطبقة السياسية التقليدية والمستحدثة من انقسامات سابقتها على حدٍّ سواء.
اليمين الفرنسي من جهته لم يقف مكتوف الأيدي تجاه هذا الكلام، حيث بدأ قادته بمهاجمة إطلالة ماكرون ذاتها، معتبراً أن الظهور بهذا التوقيت وقبل ساعات من الصمت الانتخابي محاولة غير عادلة في السياق الانتخابي للتأثير على الناخبين، هذا اليمين لم يستند بهذا الهجوم فقط إلى زلات ماكرون السياسية على رأسها التعاطي السيئ مع الحرب الأوكرانية التي لا يزال اليمين المتطرف يراها فخاً وقعت به أوروبا، ولا على ترهل الأداء الاقتصادي للحكومة، لكنه استند في السياق ذاته إلى ارتفاع غير مسبوق بنسبة المؤيدين له والذي أعطاهم ما نسبته أكثر من ثلاثين بالمئة بآخر استطلاع للرأي وهي نسبة إذا ما تحققت فستعني انتصاراً كاسحاً، أحد الصحفيين الفرنسيين المعروفين بالاعتدال بما يتعلق في تحليل الوقائع الانتخابية وصف التجمع الأخير لليمين المتطرف في العاصمة باريس بحضور زعيمته مارين لوبين بأنه مرعب، وإحدى القنوات الإخبارية بثت تقريراً عن مدن الجنوب الفرنسي التي لا تعتبر أحد معاقل هذا اليمين تاريخياً، أظهر الحجم الكبير لارتفاع نسبة المؤيدين للحزب بين الشباب وشعارهم الأساس: نريد العيش في مجتمع من دون عنف ودون ثقافات تدعو إلى العنف!
هذا بسياق المؤيدين، أما على الصعيد الرسمي لليمين المتطرف فقد رفعت رئيسة الحزب مارين لوبين السقف عالياً بوجه الرئيس إيمانويل ماكرون، هذا الأخير كان قد أكد أنه مستعد للكلام والنقاش مع لوبين، لترد عليه بالقول إنها تقبل التحدي وتقبل أي مناظرة سياسية قبل الانتخابات لكن بشرط أن يضع ماكرون استقالته على الطاولة ويتعهد بتنفيذها في حال خسر الانتخابات الأوروبية، ما يعني عملياً حل البرلمان واعتبار الحكومة مستقيلة، دعوة تم تجاهلها من قبل الحزب الحاكم ومؤسسة الرئاسة بذريعةِ أن دعوات كهذه ستؤدي إلى الفوضى ودخول البلاد في أزمة سياسية وهذا ما يبحث عنه اليمين المتطرف، ولكن بموضوعية مطلقة نتساءل: هل تبدو الثقة التي تتحدث بها مارلين لوبين مثيرة للاهتمام؟
مع بداية ربيع الدم العربي وتصدر الإسلام السياسي المشهد كبديل شعبوي للأنظمة التي سترحل، جرى في الأوساط السياسية والإعلامية الأوروبية مصطلح ساقط لا يستند إلى أي تشريح عقلاني لأوضاع المنطقة عنوانه العريض: لماذا لا تدعوهم يجربون؟ كان هؤلاء يهدفون من خلال هذا المصطلح للرد على الأصوات التي حذرت من وصول هؤلاء الإسلاميين بالقول: لماذا لا تعطوهم الفرصة ليحكموا؟ ما مبررات الخوف من أحزاب كهذه؟
كان البعض من هؤلاء يحاول التبرؤ من المشروع الأميركي الهادف لإحلال التنظيمات الإسلامية بديلاً للأنظمة الحاكمة لكون شعوب المنطقة تناسبها الفكرة الدينية بالاستناد إلى التجربة التركية.
كذلك الأمر شكل هذا المصطلح فرصة لصغار الإعلاميين في العالم العربي للترويج له بصورة إظهار هؤلاء المتأسلمين كضحايا، لم يمض وقت طويل حتى أثبتت التجربة المغمسة بالدماء ما جرَّه هذا المصطلح على المنطقة، من التجربة الليبية التي أماطت اللثام عن دور الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي بقلب النظام الليبي لاعتبارات شخصية واحتفاله وسط العاصمة الليبية طرابلس مع إرهابيي «المهدي حاراتي» وتكبيراتهم فرحاً بسقوط النظام، ثم التجربة المصرية التي تم فيها سحل الشعب بأيدي تنظيم الإخوان المجرمين عبر فتاوي تلفزيونية، إلى أن تمكن الشعب المصري من إسقاط النظام الإخواني المجرم، وصولاً إلى الحالة السورية التي تبدو غنية عن التعريف، كل هذه التجارب كانت ضحايا مصطلح غبي عنوانه: لماذا لا تدعوهم يحكمون!
من المفيد طرح هذه المقاربة على الأوروبيين أنفسهم على مبدأ: لماذا لا تدعوهم (أي اليمين المتطرف) يحكمون؟
اليوم يكفي أن تطرح هذا السؤال لكي تنهال عليكَ الاتهامات من كل حدبٍ وصوب، أولئك الذين ينحدرون من أبناء الجيل الثاني والثالث من المهاجرين سيتهمونك بموالاة التطرف الذي لا يعترف بالآخر وكأنهم حقيقة أنموذجاً لاحترام الآخر!
أما الفرنسيون أنفسهم فسيذهبون بك لتهمة موالاة «البوتينية السياسية» لكون اليمين المتطرف بالنسبة لهم هو الذراع التي يضرب بها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين العمق الأوروبي، أحد التقارير التي خرجت بالأمس تحدث عن الرابط بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وسعيه للحصول على تبديل صورة إسرائيل في خطاب اليمين المتطرف، هذا التقرير الذي من الواضح بأنه مفبرك، خاطب أبناء المهاجرين، محذراً بأن تقاعسهم عن التصويت سيعني مساعدة غير مباشرة لوصول من يدعم جرائم الكيان إلى السلطة وكأن السلطة الحاكمة في فرنسا حالياً ليست متورطة حتى أذنيها بالجرائم التي تضرب فلسطين المحتلة، كل هذه التفاصيل التي نوردها لا تعني تمني الخراب لهذا البلد أو ذاك لا، لكننا ببساطة نطرح التساؤل المشروع ذاته، علماً أن من دعم أولئك المتأسلمين كان يعرف خطابهم الإلغائي ودعانا لنجربهم! فماذا ينتظرنا؟
لا تبدو هذه الانتخابات الأوروبية كسابقاتها ونتائجها تبدو كأنها سترسم ملامح كبيرة لا يمكن عزلها أبداً عن المتغيرات الدولية، صدق ماكرون عندما قال إن أوروبا مهددة، لكنه كذب في توصيف إخفاقات من ساهم بتهديدها، بمعنى آخر: لماذا لا تدعوهم يحكمون؟!
كاتب سوري مقيم في فرنسا
سيرياهوم نيوز1-الوطن