زينب اسماعيل
تسعون عامًا من الحنين والقوة والصمت الذي يحمل وطنًا في كل نغمة. رحلة صوت لا يشيخ، ورمز لذكرياتنا ولحظاتنا التي لا تُنسى.
في بلدٍ يتبدّل أسرع من الفصول، تبقى هناك امرأة واحدة تتقدّم في العمر دون أن تهرم.
اليوم تُتمّ فيروز التسعين، وببلوغها هذا العمر تصبح ليست فقط جزءًا من تاريخ لبنان، بل جزءًا من عمره نفسه: تسعون سنة من الصوت، من الصمت، من الوقوف بين الضوء والظل بكرامة لا تهتز، ومن القدرة على تحويل لحظة عابرة إلى ذاكرة دافئة تسكن الناس كأنها تخصّهم وحدهم.
وُلدت نهاد حداد عام 1935 في بيروت الفقيرة، في زمنٍ يبحث عن هوية. صوتها الذي خرج خجولًا من زقاق ضيّق صار لاحقًا واحدًا من أهم الأصوات في الشرق. في الأربعينيات والخمسينيات، حين دخلت الإذاعة والتحقت برحلة الأخوين رحباني، انفتح أمامها زمن جديد: صارت الأغنية بيتًا، والمسرح وطنًا موازيًا، والخيال مساحة لحماية بلد يتصدع، ونافذة يطلّ منها الناس على وطن يتمنّونه ولو لم يكن ممكنًا بالكامل.
لكن ما صنعته فيروز لم يكن فنًا فقط؛ كان لغة..لغة تشبه ضوء الصباح حين ينساب فوق القرى، وتشبه الحجارة القديمة التي تختزن حياة كاملة، وتشبه رائحة الخبز التي تعيد الإنسان إلى بيته مهما ابتعد. كان صوتها يشبه وعدًا صغيرًا بالطمأنينة، وعدًا يدرك الناس أنه قد لا يتحقق، لكن وجوده وحده يكفي ليجعل الأيام أقل قسوة.
ومع الأخوين رحباني، صارت رمز لبنان الذي يحاول أن يبدو جميلًا مهما ضاق، شاعرًا مهما ازداد نزيفه، وعنيدًا ولو كُسرت أجنحته. صارت الغابة والضيعة والشارع والحلم، وصار الناس يسمعونها ليجدوا أنفسهم، لا ليهربوا من الواقع فقط.
ثم جاء زياد الرحباني.
زياد لم يكمل الأسطورة فقط؛ بل أعاد كتابتها بجرأة. قدّم فيروز كصوت يجرؤ أن يقترب من الحقيقة بلا خوف، ويغنّي الخسارة بصدق لا يعرف التجميل. في أعماله، أصبحت فيروز امرأة تعرف وحدتها جيدًا، لكنها تحوّلها إلى موسيقى عالية، إلى حنين لا يعتذر، وإلى حزن يشبه النور أكثر مما يشبه العتمة.
طوال حياتها، عُرفت بقوة شخصيتها.
امرأة قليلة الكلام، كثيرة المواقف، تختار الصمت لأنه أبلغ من ضجيج العالم. تبتعد عن السياسة لا لأنها محايدة، بل لأنها تعرف أن صوتها أثمن من أن يُستَخدم. وفي عزّ الحرب، حين انقسم الناس والبيوت، بقي صوتها المساحة الوحيدة التي لا تُقاس بالرصاص.
لم تظهر كثيرًا في العقود الأخيرة، لكنها لم تغب يومًا.
يكفي أن تُسمَع أغنيتها في شارع خامل لتلمع الذاكرة كلها. اليوم، وهي في التسعين، لا تزال فيروز تُجسّد ما أصبح نادرًا: رقة بلا ضعف، صمتًا يحمل قوة كاملة، ووضوحًا يشبه الحقيقة حين تُقال بلا خوف. وكأنها تقول إن الزمن يشيخ، لكن الأصوات التي وُلدت من الطهارة لا تشيخ أبدًا.
عيد ميلادها ليس مناسبة احتفالية فقط.
إنه تذكير بأن لبنان مهما انكسر، ما زال يملك ما يحميه من النسيان.
وأن صوتًا واحدًا، من امرأة واحدة، استطاع أن يكون وطنًا كاملًا حين غاب كل شيء آخر.
وفي صباحٍ لا ينتهي، يعود صوتها كما يعود الدعاء القديم:
هادئًا، ثابتًا، يقول للناس جميعًا:
“بعدك على بالي…”

(أخبار سوريا الوطن2-الحوار نيوز)
syriahomenews أخبار سورية الوطن
