سعيد محمد
أعلن مرشح «الاتحاد الديمقراطي المسيحي»، فريدريش ميرتس، لمنصب المستشار في ألمانيا، فوز حزبه في الانتخابات التشريعية التي جرت أمس، مؤكداً أن المحافظين «سيبذلون قصارى جهدهم لتشكيل حكومة قادرة على اتخاذ الإجراءات في أسرع وقت ممكن». واستبعد ميرتس، المرجّح أن يتولّى منصب المستشار خلفاً لـ»الاشتراكي الديمقراطي»، أولاف شولتس، أيّ تحالف حكومي مع اليمين المتطرّف. أمّا شولتس، فقد أقرّ بالهزيمة، مبيّناً أن «نتائجنا أسوأ من ذي قبل، وأتحمّل المسؤولية عنها». وكشف أحدث استطلاعات للرأي عن تقدم ملحوظ لـ»الاتحاد المسيحي» (المكوّن من الحزب المسيحي الديمقراطي، وشقيقه الأصغر الحزب المسيحي الاجتماعي البافاري) بنحو 29% من أصوات الناخبين، تلاه «البديل من أجل ألمانيا»، متقدّماً على «الاشتراكي الديمقراطي» و»حزب الخضر».
وكان الناخبون الألمان توجهوا إلى صناديق الاقتراع، أمس، لاختيار نوّابهم إلى «البوندستاغ» (البرلمان – 630 مقعداً)، وذلك بعد حملة انتخابية صاخبة هيمنت عليها قضايا اقتصاد البلاد المتعثّر، والجدل في شأن الهجرة والأمن، بالإضافة إلى النسق المستجدّ في العلاقة بين أوروبا والولايات المتحدة في عهد الإدارة الجمهورية الجديدة. وعلى رغم تعدُّد السيناريوات حول النتائج، بدا جلياً أن الناخبين المتذمّرين من أزمات بلادهم المتراكبة، سيطيحون أحزاب الائتلاف الحاكم بقيادة شولتس (الاشتراكي الديمقراطي، والخضر) لمصلحة صعود الأحزاب اليمينية: «الديمقراطي المسيحي» (يمين محافظ)، و»البديل من أجل ألمانيا» (أقصى اليمين).
وعشيّة الانتخابات، أصرّ ميرتس على أنه لن يكون هناك اتفاق مع «البديل» الذي حلّ في المركز الثاني، حاصداً، وفق استطلاعات الرأي، ما بين 19.5% و20%، مقابل 10.4% في عام 2021. ويحتّم ذلك على ميرتس التحالف مع الحزب الثالث لتشكيل حكومة، أي «الاشتراكيين الديمقراطيين»، والذي أظهرت الاستطلاعات حصوله على نحو 16.5%، مقابل 25.7% في عام 2021. وتجدر الإشارة إلى أنه يحقّ لنحو 60 مليون ألماني التصويت سواء بالحضور الشخصي – في أول انتخابات شتوية تجري في البلاد منذ 30 عاماً -، أو عبر البريد، علماً أن نسبة المشاركة في الانتخابات الألمانية بلغت نحو 83%، وفقاً لما ذكرته «هيئة الإذاعة والتلفزيون العامة الألمانية» (زد دي إف)، ما يمثّل أعلى نسبة مشاركة منذ إعادة توحيد ألمانيا في عام 1990.
وكانت النقاشات الانتخابية التي جرت في أجواء شتوية قاتمة تمحورت بدايةً حول الصيغ التي من شأنها وقف الانهيار الاقتصادي المتعاظم الذي يهدّد البلاد. ولاحقاً، تسبّبت هجمات شنّها مهاجرون مسلمون (أفغاني وسوري) استهدفت مواقع مدنية وأطفالاً في إطلاق عاصفة سياسية حول الهجرة والأمن طغت على كل نقاش آخر، وهو ما منح «البديل من أجل ألمانيا» فرصةً لتكثيف طرحه المعادي للهجرة والمهاجرين، مع مسارعة أحزاب يسار الوسط إلى تقديم نفسها كقلاع ضدّ التطرّف اليميني وتكريس منطق «درع الحماية» – وهو تفاهم غير مكتوب بين الأحزاب الألمانية التقليدية بعدم التعامل مع الأحزاب اليمينية المتطرفة.
أصرّ ميرتس على أنه لن يكون هناك اتفاق مع «البديل» الذي حلّ في المركز الثاني
وقد حاول ميرتس استغلال الأجواء لتقديم اقتراح غير ملزم لـ»البوندستاغ» المنتهية ولايته، بفرض قيود أكثر صرامة على الحدود ورفع وتيرة الحرب على الهجرة غير الشرعية، لكن تمرير القرار تمّ بدعم صريح من نواب «البديل»، ما اعتبرته بقية الأحزاب إشارة إلى إمكان كسر المحافظين للتابوهات ودخولهم في تحالف يميني خالص، الأمر الذي اضطرّ معه ميرتس إلى نفي ذلك مراراً. ومع اقتراب الحملة من نهايتها، تبعثر كل شيء مجدّداً، مع إعلان الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، عن إطلاق مفاوضات مباشرة مع موسكو لإنهاء الصراع في أوكرانيا، استبعد منها الأوروبيين بشكل صريح، قبل أن يلحق به نائبه جي دي فانس، الذي ألقى خطاباً صادماً من على منصة «مؤتمر ميونيخ للأمن» انتقد فيه النخب الأوروبية الحاكمة، واتّهمها بالتساهل في سياسات الهجرة وممارسة ديمقراطية انتقائية، على خلفية استبعاد أحزاب أقصى اليمين.
على أن ذلك أغرق ألمانيا في لجة من قلق عميق بعدما تسبّب سياسيو البلاد باصطفافهم الأعمى وراء الإدارة الأميركية السابقة في تحطيم أسس الميزة التنافسية للاقتصاد الألماني عبر فقدان إمدادات الطاقة الرخيصة من روسيا، وإفساد العلاقات مع الصين، وإنفاق المليارات في دعم نظام فولوديمير زيلنسكي في كييف وتحويل الجيش الألماني إلى قوة هجومية.
أيضاً، لم تكن سياسات ائتلاف شولتس الكارثية خلال السنوات الأربع الأخيرة سوى تسريع لتدهور متلاحق مستمرّ منذ بعض الوقت في ألمانيا، التي بنت معجزتها الاقتصادية على قاعدة من الطاقة الرخيصة المتدفقة من ناحية الجار الروسي، ومكّنتها من تعظيم إنتاجية قاعدتها الصناعية المخصّصة للتصدير. لكن مع فقدان إمدادات الطاقة الرخيصة، وتعملق الصين، والحرب التجارية المحتملة مع الولايات المتحدة، والبيروقراطية المفرطة، كما ارتفاع نسبة الشيخوخة في المجتمع، والانقسامات الثقافية الحادّة بسبب مسألة الهجرة، وتداعي البنى التحتية العامة، فإن ألمانيا – قاطرة الاقتصاد الأوروبي كما كانت تسمى – أصبحت اليوم أسيرة حلقة مفرغة من انعدام النمو الاقتصادي، والتراجع المتسارع في القدرة التنافسية، وفقدان القدرة على الاستمرار في تمويل دولة الرفاه الاجتماعي التي اعتادها الألمان.
وهكذا، سيتعيّن على مستشار ألمانيا الجديد والائتلاف الحاكم الثنائي أو الثلاثي أو الرباعي الذي سيضطر إلى بنائه من خلال التنازلات وتلفيق السياسات، مواجهة كل هذه التحدّيات الاقتصادية المفصلية من دون قاعدة دعم شعبي صريح، وفي ظل تغيّر ثوري الطابع في منظومة العلاقات الدولية برمّتها، حيث تحتاج ألمانيا أكثر من أيّ وقت مضى إلى إعادة نظر عميقة في دورها السياسي والاقتصادي في العالم والإقليم، وربّما استغلال اللحظة لمساءلة المسكوت عنه منذ تأسيس الدولة الألمانية المعاصرة بعد الحرب العالمية الثانية: طبيعة العلاقة بالولايات المتحدة – التي يسيطر عسكرها على الأرض، واستخباراتها على النخبة، وتمثّل أحد أهمّ الأسواق للصادرات الألمانية -، وأيضاً في وقت تفتقد فيه أوروبا بشدّة لدور قيادي من برلين، توازياً مع ضعف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون داخلياً وتراجع قيمة فرنسا دولياً، كما خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وتوسع دائرة مشاكلها الداخلية، وذلك للتعامل مع النهج الإمبراطوري لترامب في مسائل الحرب، والسياسة، والاقتصاد.
أخبار سوريا الوطن١_الأخبار