| علي جمال
تحتفي مصر بحصيلة استثمارات وقروض استطاعت تحصيلها خلال «قمّة المناخ» التي انعقدت فيها أوائل الشهر الجاري، مُتجاهِلةً تنكُّر الجهات المستثمِرة والمانِحة لوعود قطعتْها على نفسها في مؤتمرات سابقة. هكذا، يتّبع النظام سياسة توزيع الأمنيات كلّما اشتدّت الأزمة، إلّا أن هذه السياسة تبدو اليوم عديمة الجدوى، في ظلّ استشعار المصريين وطأة الانهيار على موائدهم ثلاث مرّات يومياً، هذا إن لم تختفِ وجبة أو اثنتان من يوميّات الأُسر المستقرّة تحت خطّ الفقر، والذي يسقط تحته المزيد سنوياً. وعلى رغم اشتداد الحاجة إلى إصلاح حقيقي، مع ما يستلزمه من حشدٍ لموارد المجتمع البشرية، وقدْر من الانفتاح في المجال العام، إلّا أن السلطة الحالية تَظهر عاجزة عن اتّخاذ مِثل تلك المبادرة، بالنظر إلى تركيبتها التي تمنعها من ذلك.
حياة المصريين بالأرقام الحكومية
يواجه المصريون ارتفاعاً غير مسبوق في أسعار سلع وخدمات استراتيجية، وفق ما تُظهره البيانات الشديدة القتامة. فبحسب آخر إحصائيات «الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء»، بلغ التضخّم، الشهر الماضي، 16.3% على أساس سنوي، وهو الأعلى منذ 4 سنوات قياساً إلى شهر تشرين الأوّل 2018. كذلك، يوثّق الجهاز، في دراسة أصدرها بداية تشرين الثاني الجاري، انخفاض استهلاك 73.9% من الأُسر على السلع الغذائية نتيجة الأزمة الاقتصادية. كما يوثّق انخفاض دخْل 19.8% من الأسر، ومعاناة حوالى ثُلُث العائلات من عدم كفاية مداخيلها للوفاء باحتياجاتها خلال الشهر السابق على الدراسة، وهو ما اضطرّ 95% من الأُسر إلى الاقتراض، «في حين اعتمدت 2.1% على مساعدات أهل الخير». ووضعت الدراسة قائمة من 12 سلعة وخدمة أساسية لقياس معدّل إنفاق المصريين عليها، لتأتي النتيجة مُفزعة، حيث «قلّ إنفاق 93.9% من الأُسر على اللحوم، و93.1% على الطيور، و92.5% على الأسماك، و74.7% على الأرز، وحوالى 70% على البيض والزيت والفواكه، وأكثر من 50% على خدمات النقل والمواصلات والملابس». وعلى رغم كارثية تلك الأرقام، فهي لا تغطّي تبِعات قرار تحرير البنك المركزي لسعر الصرف أواخر تشرين الأوّل الماضي، والذي أفْقدَ الجنيه رُبع قيمته، ليبلغ 24.58 جنيهاً مقابل الدولار وقت كتابة المقال. إزاء ذلك، يبرّر النظام قراراته بالأزمات العالمية، ووباء «كورونا»، وتداعيات الحرب الأوكرانية – الروسية على الاقتصاد العالمي. ففي مؤتمر اقتصادي عقدتْه الحكومة أواخر تشرين الأوّل الماضي، أصرّت على صحّة قراراتها، وأنْحت باللائمة على الحظّ العاثر وعبث الأقدار، على رغم اعترافها بفشل جدوى بعض مشاريعها الاستثمارية المموَّلة بالقروض، أو انحصار أهدافها بـ«رفع معنويات الشعب»، بحسب تصريح الرئيس عبد الفتاح السيسي نفسه.
من يموّل فاتورة إنشاء «الكباري»؟
تضرّرت الأسواق الناشئة كافة بالأزمات المتتالية خلال العامَين السابقَين، إلّا أن تأثُّر الاقتصاد المصري بدا أعمق من سِواه إلى حدٍّ بعيد، من جرّاء ارتفاع الدين الخارجي والداخلي إلى مستويات اعترف بخطورتها رئيس الحكومة، مصطفى مدبولي؛ والتوسّع في الإنفاق على مشاريع البنية التحتية التي تقلّل البطالة لصالح تعظيم رقعة الفقر، ومن خلال وظائف قليلة الدخل، بدلاً من الاستثمار في مشاريع إنتاجية تُدرّ ربحاً يمكن من خلاله تسديد خدمة الدين وأقساطه، وتوليد وظائف ذات دخْل جيّد؛ فضلاً عن تقليص الإنفاق العام ومُزاحمة الدولة للقطاع الخاص. ويصف الباحث ماجد مندور، في دراسة صدرت عن «المنبر المصري لحقوق الإنسان»، هذا النهج بأنه «أداة لنقْل الثروة من الشعب المصري إلى دائني النظام، سواء من الخارج أو في الداخل». ولا يستهدف تعميق حالة الاقتراض سوى «تمويل الاستثمار في مشاريع البنية التحتية، التي ليس لها تأثير اقتصادي إيجابي يُذكَر»، وتُدفع غالبية أقساطها من الضرائب، التي تقترب حصّة ضريبة القيمة المضافة في هيكلها من النصف، وهي ضريبة لا تراعي الدخل، وتُستقطع من جيب الغني والفقير بالقدْر نفسه. وفي هذا الإطار، يصف مندور النظام الضريبي المصري بأنه نظام تنازلي بامتياز، ما يعني «ببساطة أن العبء الضريبي يتحوّل بعيداً عن الطبقات العليا، ويقع على عاتق الطبقات الدنيا والمتوسّطة. وهذا، في جوهره، يموّل العمليات الحكومية، بما في ذلك سداد الديون من جيوب الطبقتَين الدنيا والمتوسّطة بطريقة تؤدي إلي زيادة الحرمان الاجتماعي». ويقارن مندور المعدّل الضريبي المصري بمعدّلات دول في المنطقة نفسها، مستنِداً إلى القانون الضريبي الذي اعتمده البرلمان في نيسان 2022، وفيه أقرّ للأفراد «نسبة 25% كأقصى معدّل ضريبي للشريحة من 400 ألف جنيه وما فوق، فيما تونس لديها نسبة ضريبية أعلى بمعدّل 35%، والمغرب فرض أعلى معدّل ضرائب بنسبة وصلت إلى %38». أمّا معدّلات ضرائب الشركات، فكانت متدنّية قياساً إلى دول الجوار بشكل ملحوظ، حيث «فرضت مصر نسبة ضريبية قدرها 22.5%، ما جعلها في المرتبة الخامسة في أفريقيا من حيث أدنى معدّلات الضرائب على الشركات، ولا تسبقها في ذلك سوى ليبيا، وموريتانيا وبوتسوانا ومدغشقر».
استقرار النظام مرهون بشراكة المواطنين في الحُكم، بقدر اشتراكهم في تمويل الديون
سياسة تسكين الأزمة الاقتصادية
استطاع «نظام يوليو» المناورة إزاء أزماته الاقتصادية ببراعة على مدى سبعين عاماً، بدءاً من عام 1965 بعد فشل الخطّة الخَمْسية الأولى أثناء التحوّل إلى المعسكر الاشتراكي، مروراً بالسبعينيات وتكاليف هزيمة حزيران 1967 وحرب 1973، وصولاً إلى مشارفته على الإفلاس مع نهاية الثمانينيات، قبل إسقاط جزء كبير من ديونه مكافأة له على مشاركته في تحرير الكويت من غزو العراق. إلّا أن الأزمة الاقتصادية سرعان ما تَجدّدت مع نهاية التسعينيات، ثمّ نهاية العقد الذي تلاها، وفي كلّ مرّة كان النظام يتّفق على قرض مع «صندوق النقد الدولي»، الذي يسارع إلى فرْض أجندته المحفوظة، وعلى رأسها تخفيض الإنفاق العام لتقليل عجز الموازنة. وعلى رغم أن تلك الأجندات لم تمرّ من دون احتجاجات سياسية واقتصادية، إلّا أن «نظام يوليو» استطاع الصمود، فكيف حدث ذلك؟
نُشرت دراسة في مجلّة دراسات عريقة صادرة عن جامعة الأردن في عام 2017، يعالج فيها الباحث أمين جابر بيانات الجرائم الاقتصادية (سرقة الأموال – السيارات – المنازل – المحالّ التجارية – الرشوة – الاختلاس – التزييف – المخدّرات)، ويتتبّع تطوّر أنماطها، وعلاقتها بارتفاع معدّلات البطالة خلال الفترة الزمنية من عام 1990 حتى عام 2013، في خمس دول هي الأردن، السعودية، المغرب، لبنان ومصر. اعتمد أمين على التقارير والبيانات الصادرة عن الأمم المتحدة والبنك الدولي، والتقارير العربية الموحَّدة الصادرة عن جامعة الدول العربية، وعن وزارات الداخلية والعدل في دول العيّنة. توصّلت الدراسة إلى أن «البطالة في دول العيّنة تُراوح بين 8% و13%، أمّا الجرائم الاقتصادية فتتزايد بنسبة من 7% إلى 10% سنة بعد أخرى»، وخلصت إلى أن «هناك علاقة ارتباطية ذات دلالة إحصائية بين ارتفاع معدّلات البطالة ومتغيّر الجرائم الاقتصادية». برهنت مصر على أنها «شقيقة كبرى»، فتصدّرت ترتيب إحصائيات الدراسة لأعوام 2003 و2008 و2013. وفي الأخيرة، احتلّت المركز الأوّل في جميع الجرائم الاقتصادية باستثناء سرقة السيارات والمحالّ التجارية، التي قنعت فيها بالمركز الثاني.
الآن، يمكن تخيّل ما وصلت إليه الحالة الجنائية، والجرائم الاقتصادية منها بالأساس، في ظلّ ظرف متردٍّ حالياً، يَصعب الإمساك به من دون إشراك المجتمع، وفتْح المجال العام. لكن مبادرات النظام، كتفعيل هيئة العفو عن المعتقلين السياسيين، أو دعوة المعارضة إلى حوار وطني، أو الاعتراف المحدود بخطأ الإدارة المنفردة للملفّ الاقتصادي، لا تكفي لمواجهة القادم. واستخدام الانفتاح السياسي للمناورة إزاء الأزمة الحالية، لا يفي بحجم التحدّيات المرتقبة، على رغم كوْنه أداة «دولة يوليو» المُفضَّلة عبر تاريخها، والتي استخدمها عبد الناصر بعد هزيمة حزيران، وفعّلها السادات أثناء قفزه من مركب الاشتراكية إلى الرأسمالية، متخلّياً عن أعداد كبيرة من المواطنين كانت ترعاهم الدولة، ووقتما أوشك البلد على الإفلاس في نهاية عقد مبارك الأول، حتى يستقرّ النظام، ثمّ نعود بعدها إلى مواقعنا. هذه المرّة، استقرار النظام مرهون بشراكة المواطنين في الحُكم، بقدر اشتراكهم في تمويل الديون.