مالك صقور
.. ” وتحسبُ أنك جرمٌ صغيرٌ
وفيك انطوى العالمُ الأكبر
ينسب هذا القول للإمام عليّ كرم الله وجهه . ولقد تمّ شرحه وتفسيره من قبل كثيرين ، وكان ذلك قبل اكتشاف الدورة الدموية ، وقبل تحليل الدم .. لكن بعد إقامة مخابر تحليل الدم ، وصناعة جهاز قياس ضغط الدم ، صار مفهوم هذا القول واضحاً جداً . وقد شرح لي ذلك الدكتور معن ندّور وهو مختص بالصيدلة واختبار الدم في لندن ، وبالمناسبة هو ابن الشاعر إلياس ندور رحمهما الله . قال لي رحمه الله : المطلوب التوازن .. التوازن في كل شيئ . خذْ ، مثلاً، السكر في الدم .. إذا زاد عن معدله الطبيعي – هذا خطر على الجسم والحياة .. وإذا انخفض السكر في الدم عن معدله الطبيعي – أيضا ، خطر على الجسم والحياة .. وكذلك ضغط الدم ، تماماً ، إذا ارتفع وإذا انخفض .. وقسْ على ذلك. كما تبين أن الدم يحتوي على الحديد ، وعلى معادن أخرى . مثل الزنك والمغنسيوم والفوسفات والبوتاسيوم .. إلخ .. بالإضافة إلى الكهرباء … فهذا الجرم الصغير الذي يحتوي كل هذه المعادن ، فضلاً عن العقل واختزان العلوم والمعارف ..بحاجة إلى التوازن ..كي يستمر في الحياة .. فما بالك بالعالم الأكبر ، إذا فقد التوازن ، والآن يتنازع العالم الأكبر ويتصارع على الثروات الباطنية وغير الباطنية وعلى المعادن الثمينة والثقيلة في بلدان العالم الثالث وعلى الرغم ، من التطور والتقدم ووسائل التفاهم ، وتمازج الثقافات ، وحوار الحضارات ، إلا أن التوازن بين الأمم اصبح مفقوداً . نتيجة تحكم القطب الواحد بمقدرات الكرة الأرضية ، والهيمنة على الشعوب .
لقد تنبأ الباحث الروسي آلكسندر بانارين في كتابه : (( التوازن الاستراتيجي المفقود في القرن الحادي والعشرين )) . ولا سيما ، بعد تفكك الاتحاد السوفييتي ، والمنظومة الإشتراكية ، وانحلال حلف وارسو . تنبأ بالحروب وعدم الاستقرار في العالم
بلى .. صدقت نبوءة بانارين ؛ بعد الربع الأول من هذا القرن . يقول : ” إن صورة القرن تتكون ، عادة ، بعد انقضائه ، فما الذي يختفي وراء الجرأة على توصيف “سيرة ” القرن لحظة ولادته ؟! ” ويجيب بانارين ؛ إنه اعتمد مجرى أحداث القرن العشرين ، ويعتبر أن الحرب العالمية الأولى كانت عقدة أحداث القرن العشرين الدرامية كلها . وفي رأيه ، أن الحرب العالمية الأولى حددت مسبقاً كل سيرة القرن العشرين وحياة الأجيال التي عاشت فيه . طبعاً يستند بانارين أيضاً على نتائج الحرب العالمية الثانية ، وعلى نهاية الحرب الباردة بين الأمبريالية الأميركية وبين الإتحاد السوفييتي .
يقول :” من المؤسف ، أنني في هذه الحالة لا أقوم بالتنبؤ الذي كان إشكالياً دائماً ، وإنما أقرر حقيقة قائمة: لقد بدأت الحرب العالمية الجديدة ، وهي تجري منذ أعوام ، وشهادتي بشأنها تعود إلى عام 1998 ” .
في هذا العام تأكد الباحث نهاية ما سُمي ب ” البروسترويكا “- إعادة البناء .. وأن الدولة العظمى المنتصرة في الحرب الباردة ، ( ويقصد الولايات المتحدة ) لم تكتف بهذا النصر ، وواصلت هجومها على جميع الدول المستقلة باسم تحقيق برنامج الهيمنة والسيطرة الكاملة على العالم ، وهذا في رأي الباحث أنها تخوض حرباً عالمية .. كانت نهاية الحرب الباردة تعني الاستقرار لو أن الولايات المتحدة اقتنعت بهذا النصر .. لكن الولايات المتحدة قامت بخرق غادر للشروط التي استسلم حاكم الاتحاد السوفييتي على أساسها .. فإن زحف الحلف الأطلسي إلى الشرق حتى الدخول المباشر إلى المجال الذي كان سوفيتيا – وهذا تمّ بعد إلغاء حلف وارسو – كان ذلك تحطيما للاستقرار . والذي زاد الطين بلة ، هو إعلان الولايات المتحدة أن ” أوكرانيا وما وراء القفقاس وآسيا الوسطى منطقة ” مصالح وطنية أمريكية ” . ومن وجهة نظر بانارين ، أن عدم الاستقرار الاستراتجي هو نتيجة اللعبة الأستراتيجية التي يشترك فيها طرفان ،طرف قوي وطرف ضعيف . يتصرف كل منهما تصرفا غير صحيح وغيرسوي ..فالخلل في تصرف القوي هو التضخيم والمبالغة حتى وغير العاقل والإنساني لإطماعه غير المحدودة . وأما الخلل في سلوك الطرف الضعيف فيكمن في عدم استعداده لمواجهة الحقيقة التي خلقتها مغامرة القوة ، ولا يبالي الطرف الضعيف بالمعارضة أو التحدي أو المقاومة ، وكلما بدا الضعيف أكثر استعدادا للتنازل في هذه اللعبة ، كلما ازداد جموح القوي المعتدي ، المقتنع بأنه قادر على كل شيء .
نعم .. لقد فُقد التوازن ، وانعدم الاستقرار .. وعدنا إلى ديالكتيك هيغل في مسألة ” العبد والسيد ” . وعلينا أن نتذكر العدوان على يوغسلافيا .ودمارها .. وكذلك على العراق .. ولقد برهنت الأحداث الدامية في كل مكان في المشرق العربي ، في فلسطين وغزة وليبيا والسودان وسورية وأماكن متفرقة من العالم ، أن الولايات المتحدة الأمريكية لا تستطيع احتمال أي استقلال لأوروبا وغير أوروبا ، والمطلوب هو الطاعة العمياء . وهي تنطلق من مبدأين خطرين : ” المنتصر يأخذ كل شيء ” والثاني : ” غداً سيكون الوقت فات ”
ومع ذلك ، هناك من يقول : ” إن العالم أكبر بكثير من أن يديره بلد واحد وحيد ” . ولن تسترد الكرة الأرضية عافيتها إلاّ بتعدد الأقطاب والتنوع .. وما زلنا نصبر وما زلنا ننتظر ..
(موقع اخبار سوريا الوطن-2)