آخر الأخبار
الرئيسية » كتاب وآراء » انهيار نظام أو ونهاية حقبة؟

انهيار نظام أو ونهاية حقبة؟

 

 

بشار اللقيس

 

 

إلى اليوم، لم تتضح بعد كامل رواية سقوط نظام البعث في سوريا. الأكيد أن ثمة ما لم يُقل في رواية السقوط الأخير. يدور الحديث هذه الأيام عن ترهل الجيش وعدم رغبة كثير من الضباط بمواصلة القتال، لكن أحداً لا يأتي على اسم هؤلاء الضباط المعترضين على الأسد في أيامه الأخيرة (من قال من هؤلاء “لا” للأسد؟، وهل من أحد كان قادراً على قول “لا” بالأصل؟).

 

الصورة إلى اليوم غير واضحة، لكن العارفين بدمشق وزواريبها يعون أن أحداً من الضباط في دمشق لم يكن ليعترض على الأسد، لا لشيء، سوى لأن بنية الجيش منذ عام 1984 (تاريخ آخر محاولة انقلابية من قِبل رفعت الأسد)، كانت قد أمست بنية “ضد انقلابية”. الترهل الذي أصاب الجيش السوري منذ مطالع التسعينيات لم يكن صدفة ولا مجرد سوء إدارة بيروقراطية. كان ذلك جزءًا من ضمان عدم قدرة أي لواء “قد تسول له نفسه” القيام بانقلاب عسكري. تحريك أي قطعة من القطعات العسكرية المدرعة كان يحتاج إلى إذن أمني. فيما أحكمت أجهزة الأمن سيطرتها على سلاح الجو بشكل كامل. المفارقة أن أحداً لم يأتِ على ذكر المؤسسة الأمنية ودورها في ما وقع في الأيام الأخيرة.

 

هل تمرد الجيش على الأسد أم المخابرات؟ هذا سؤال لا يريد أحد من السلطة الجديدة أو رجال العهد القديم الإجابة عنه، ببساطة، لأن صفقة ما قد وقعت. وفيما يجدّ رجال الهيئة (السلطة الجديدة) في ملاحقة الضباط والعناصر الفارين من مسؤولي ملفات السجون والوحدات المقاتلة في القرى والمحافظات، تغيب عن الواجهة أسماء ثقال من رجالات المخابرات العامة، والأمن السياسي، ممن حكموا البلاد لعقود وكانت لهم اليد الطولى في ما وقع في سوريا منذ عام 2011 في أقل تقدير.ا

 

بداية النهاية:

 

عشية اندلاع معركة طوفان الأقصى، عبر عدد من المسؤولين المقربين من دوائر قرار النظام عن عدم رغبة سوريا في المشاركة الفاعلة في الحرب. جاء ذلك على لسان غير مسؤول سوري زار بيروت بعيداً عن الإعلام. وعلى عكس السردية الإعلامية التي كانت تقول أن موقف سوريا نابع من وضعها الاقتصادي الصعب أو المترهل، كانت عبارات رفض توسيع المشاركة في الحرب لدى المسؤولين السوريين نابعة من موقف سياسي. وكانت الجملة السياسية المفتاحية في لقاءاتهم على الدوام “سوريا عربية أولاً وآخراً” وتلتزم سقف السياسة العربية وهو ما على المقاومة فهمه. كلام الشهيد السيد حسن نصرالله في خطابه الأول بُعيد اندلاع الطوفان (في 3/11/2023) كان في جنبة منه موجهاً للقيادة السورية بقوله: “يوجد من يقول لك، إذا إنتصرت غزة ]…[ يعني انتصر الإخوان المسلمين في المنطقة، وهذا تضليل وتحريف وتزوير. ]إن[ ‏انتصار غزة يعني انتصار الشعب الفلسطيني، ]…[ وهو انتصار لدول وشعوب المنطقة، وخصوصاً دول الجوار… وهو مصلحة وطنية سورية”.[1]ا

 

واقع الأمر، ومنذ عام 2019، كانت المسافة بين النظام والمحور تتسع شيئاً فشيئاً في ظل مطالب روسية من الأسد بالابتعاد عن طهران. ولإن أعطت عودة حلب إلى كنف النظام هامشاً للأسد ليتخفف من ثقل الوجود الإيراني (أملاً في علاقة أكثر توازناً مع روسيا والعرب). فإن روسيا ظلت غير آبهة بالنظام ولا بمؤسساته العسكرية والأمنية المترهلة. وهكذا، كانت قرارات من قبيل إقالة أكثر من 100 ضابط من المحسوبين على إيران من ذوي المناصب الحساسة بداية عام 2019، لا تقابل في موسكو إلا بمزيد من المطالب والإملاءات، وحتى الإهانات.

 

زيارات بوتين ووزير دفاعه السابق (شويغو) إلى سوريا كانت تشي بما هو أكبر من مجرد امتعاض روسي. كلنا يذكر زيارة بوتين لدمشق في كانون الثاني 2020، وإعراضه عن أن يعرج على أيٍ من مؤسسات الدولة الرسمية. الوثائق المسربة في نهاية عهد وزير الدفاع السوري السابق علي عبدالله أيوب (بين نيسان وتموز من العام 2022) كذلك كانت تشي بتوتر سوري كبير إزاء السلوك الروسي، إذ تعمد الروس استباحة القواعد العسكرية السورية دون أي تنسيق مع القيادة السورية وبشكل متكرر، ما دفع بعلي أيوب إلى إصدار تعميم في 9/4/2022، يحذر الضباط وصف ضباط من التعاون أو التواصل أو “الخضوع لدورات تدريبية لدى الروس دون الحصول على موافقة القيادة العامة للجيش والقوات المسلحة”.

 

تحت هذه الوطأة، حاول نظام البعث إعادة هيكلة قواته العسكرية والأمنية بين عامي 2019 و2024 دون القدرة على الحد من تمدد النفوذ الروسي في مجتمع الاستخبارات والجيش. فكانت روسيا تحكمُ سيطرتها على دمشق تدريجياً دون أي قدرة من النظام على مواجهتها. في الحقيقة لم يستشعر النظام خطر التمدد الروسي لقناعته بأن الحلفاء سيكونون مع الوقت أكثر حاجة لدمشق و”أسدها”. وأن ضعف النظام سيكون سبباً كافياً لتمسك الأطراف المختلفة به (أسأل الله أن يمدني بالعمر الكافي إلى الوقت الذي أستطيع معه استيعاب مصدر هذه القناعة لدى الأسد ونظامه).

 

واقعاً، كان نظام البعث بين عامي 2019 و2024، كمن يطلق النار على قدميه. فلا هو أقدم على حل سياسي (ولو كان حلاً شكلياً مع المعارضة الوطنية) يرضي به شعبه ويخرج به من أزمته، ولا هو أدار بنيته العسكرية بما يؤهله للبقاء ومواجهة التحديات التي تتربص به. وكأنما استشعر الأسد أن قوته في ضعفه؛ تلك المقولة اللبنانية التي أحالت لبنان إلى “ملطشة” (كلمة بالعامية اللبنانية لا أعرف المرادف لها بالفصحى/ قد يكون مصطلح “استباحة” هو الأقرب).

 

وعلى أية حال، كان طوفان الأقصى، ومن قبله الحرب في أوكرانيا، كفيلان بوصول الأمور إلى خواتيمها. فروسيا مع الوقت، كانت أكثر حاجة إلى تركيا (الشراكة الروسية التركية في البلقان والبحر الأسود والقوقاز هي مأمل روسيا التاريخي، ومأمل بوتين منذ عام 2016؛ أي بعيد محاولة الانقلاب على أردوغان الفاشلة)، وموسكو كانت أكثر قناعة بضرورة اجتناب أي صدام مع “إسرائيل” ستدفع كلفته في أوكرانيا عاجلاً لا آجلاً (هناك خشية روسية جدية من مد تل أبيب كييف بمنظومات الدفاع الصاروخي، ونظم المراقبة). فيما كانت طهران أكثر إصراراً على مواجهة الاستحقاق الذي فرضه طوفان الأقصى على مستوى كامل جبهات محور المقاومة، فتجنب سوريا فتح الانخراط بشكل فاعل يعني انكشاف طهران الكلي أمام سهام “إسرائيل” وخصومها. أما نظام البعث، فكان الخاسر الأكبر من كل هذه التحولات في ظل شلل شبه تام عن المبادرة.

 

الأشهر الأخيرة حملت من دمشق أخباراً قلقة. كل من يعرف دمشق أو زارها في عامها الأخير قبل سقوط البعث يعرف أن شيئاً غير طبيعي يحصل في العاصمة السورية. في آخر زيارة لي للعاصمة، اجتمعت في مقهى الروضة بثلاثة من الأصدقاء (أحدهم عُيّن وزيراً بعد فترة لسوء حظه) لأسألهم عن حال دمشق. ضحك الثلاثة ولم يجيبوا. وبعدما ألحيت بأسئلتي أجابوا… و”ليتهم ما فعلوا”. الجميع كان يردد كلمة واحدة: كارثة. من أصغر تفصيل إلى أكبر مسألة كانت الأمور تُدار بنحو كارثي. الكل كان موقناً أننا على مشارف نهاية حقبة، والمسألة مسألة وقت ليس إلا.

 

في الأشهر الأخيرة تناهى إلى مسامع كثيرين محاولة انقلاب حسام لوقا رئيس إدارة الاستخبارات العامة على النظام. وبالرغم من نفي الخبر، إلا أن الخبر نفسه كان مؤشراً على تفسخ آخذ في الوقوع في بنية النظام ومؤسسته الأمنية. الأكيد أن لوقا زار بيروت، وأن الشهيد السيد نصر الله لم يلتقِ الرجل في زيارته الأخيرة للبنان في آب من العام المنصرم. لا معلومات إلى اليوم عن سبب عدم لقاء السيد لوقا. وبالمثل، لا معلومات إلى اليوم عمن أبلغ عناصر الجيش بوضع سلاحهم وعدم القتال، ولا عمن قال للأسد “لا” في اجتماعه الأخير مع ضباط الأركان عشية هروبه من سوريا. الأكيد أن كثيراً من الأحداث لن ندرك تفاصيلها حتى أجل مسمى، والأكيد أن سقوط البعث ليس انهيار لنظام سياسي فحسب، بل نهاية لحقبة من تاريخنا.

(اخبار سوريا الوطن 1-الخندق)

x

‎قد يُعجبك أيضاً

جمهوريّة على شاكلة رئيس الجمهورية

    نبيه البرجي   سواء اتفقنا  أم اختلفنا مع الرئيس نبيه بري، الرجل قامة لبنانية كبرى مثلما هو ضرورة لبنانية كبرى. معلوماتنا الموثوق بها ...