باسل علي الخطيب…
“إن تفكك الاتحاد السوفيتي هو أكبر مأساة جيوسياسية في القرن العشرين”….
هذا ماقاله الرئيس الروسي فلاديمير بوتن في الذكرى الثلاثين لانهيار الاتحاد السوفيتي قبل عامين…
هذا التصريح يوضح إلى أي مدى يمكن أن تذهب موسكو فيما خص الحرب في أوكرانيا…
نعم، يمكننا القول من دون شك أن أوكرانيا تحولت إلى خط التماس الأول بين روسيا وبقية الغرب، وأن أوكرانيا هي خاصرة روسيا الضعيفة التي لاتنفك توجع روسيا منذ أكثر من عقدين.
ماذا تعني أوكرانيا لروسيا؟….
بعد سقوط الاتحاد السوفيتي اعتبر الكثير من القوميين الروس أن انفصال أوكرانيا خطيئة تاريخية وتهديد لمكانة روسيا كدولة عظمى، حيث اعتبروا أن خسارة السيطرة على أوكرانيا والسماح لها بالالتحاق بالفلك الغربي بمثابة ضربة كبيرة لمكانة روسيا كقوة عظمى…
أوكرانيا كانت الدولة الثانية من حيث الأهمية في الاتحاد السوفيتي بعد روسيا، الثالثة من حيث المساحة والثانية من حيث عدد السكان، وكانت تعتبر سلة قمح الاتحاد السوفيتي، كما كانت مركزاً للكثير من الصناعات السوفيتية الأساسية والتي ورثتها لاحقاً، وموانئها كانت الموانئ السوفيتية الأساسية على البحر الأسود ومركز اسطول البحر الأسود…
الروس والأوكرانيين ومعهم البيلاروس ينتمون إلى عرق واحد هو العرق السلافي الشمالي، هذا العرق شكل دولته الأولى في كييف وليس في موسكو، فنشأة الهوية والأمة الروسية كانت في أوكرانيا وعاصمتها كييف فيما كان يعرف (دولة روس كييف)، والتي منها أخذ الروس مسماهم، هذه الدولة يعتبرها الروس السلف الأول لدولتهم والتي انتقلت عاصمتها لاحقاُ إلى موسكو بسبب هجمات المغول والتتار المتلاحقة على كييف….
في الذاكرة الجمعية للروس تعتبر كييف أم المدن الروسية، وإليها وصلت أولاً المسيحية الشرقية التي كانت عاملاً مهما في تشكيل الهوية والأمة الروسية…
هناك أكثر من عشرة ملايين من أصل روسي يعيشون في أوكرانيا، معظمهم في الشرق والجنوب، الروس يشكلون 18% من السكان، كما أن هناك 30% من السكان يتكلمون اللغة الروسية كلغة أولى أو لغة أم، تنتشر اللغة الروسية في شرق البلاد وجنوبها وتنتشر الأوكرانية في وسط البلاد وغربها.
يمكن القول أن أوكرانيا تشكل نوعاً ما إقليماً انتقالياً بين روسيا وأوروبا، جاءت التأثيرات الأوروبية في أوكرانيا عبر بولونيا (تعرضت أوكرانيا لاحتلال بولندي لفترة طويلة نسبياً) ومعها جاءت الكاثوليكية….
على فكرة الاختلاف الديني هو أحد أوجه انقسام الأمة الأوكرانية، حيث يدين أغلب الموالين لروسيا بالمذهب الأرثوذكسي، وأغلب معارضيها يدينون بالمذهب الكاثوليكي، أوكرانيا أيضاً هي جزء من العالم السلافي الواسع والذي تمثل روسيا محوره، التأثير الثقافي الروسي على أوكرانيا ليس تاريخياً فحسب، بل هو واقع معاش وموجود…
في أوكرانيا انقسام داخلي عميق، فهي منقسمة بين المتحدثين باللغة الروسية في الشرق والجنوب، وبين المتحدثين باللغة الأوكرانية في الوسط والشرق، ولكل فريق ذاكرته الجمعية الخاصة به…
لروسيا نظرة خاصة لأوكرانيا كجزء من المجال الحيوي الجيوسياسي لروسيا، الأوكرانيون ينقسمون في النظرة إلى روسيا، فالمناطق الشرقية أقرب حضارياً إلى روسيا، بينما المناطق الغربية والوسط أقرب لأوروبا، حيث يسود الشعور القومي الأوكراني المتعصب والمعادي للروس، أوكرانيا مثال صارخ على أمة الهويتين واللغتين والدينين والتوجهين، ومثالها في ذلك في العالم بلجيكا وتركيا ونيجيريا….
مع وصول بوتين إلى الرئاسة في روسيا، بدأت مرحلة التعافي من فترة التسعينات المريضة التي كلفت روسيا مكانتها كقوة عظمى على مستوى العالم، وكان نتاجها خسائر جيوسياسية هائلة في محيطها الحيوي وفي العالم…
تبلور لدور الدولة العميقة في روسيا هدف استراتيجي حيوي، ألا وهو استعادة النفوذ الروسي القوي في الدول التي كانت منضوية تحت مظلة الاتحاد السوفيتي، والحرص على عدم وقوعها تحت النفوذ الغربي، وأن تكون فيها حكومات موالية لروسيا أو على الأقل ليست معادية….
الرد الغربي على هذا التوجه الروسي كان بإشعال الثورات الملونة في بعض جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق والتي توجت بما سمي الثورة البرتقالية في أوكرانيا عام 2004، والتي كان نتاجها خسارة مرشح روسيا في الانتخابات الرئاسية ووصول معارض لروسيا إلى سدة الرئاسة، في انتخابات 2010 عاد مرشح روسيا فيكتور يانوكوفيتش وربح الانتخابات الرئاسية، في عام 2013 علق الرئيس يانوكوفيتش إجراءات تنفيذ اتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي، مما أدى إلى اندلاع احتجاجات أطاحت به في شباط 2014….
دعم الغرب الاحتجاجات في أوكرانيا كما دعم الثورة البرتقالية عام 2004، واجهة الدعم الغربي كانت الإصلاح والديمقراطية ومكافحة الفساد…
وكما في كل مرة استعمل فيها الغرب هذه الذرائع لزعزعة استقرار بلدان أخرى أو لتحويلها ساحات للصراع الجيوسياسي مع بقية المنافسين على مستوى العالم (روسيا والصين تحديداً)، هذه الواجهة كانت تخفي خلفها أهدافاً أكثر خبثاً، تتمثل في تحويل أوكرانيا إلى ساحة استنزاف وإشغال لروسيا بغية إضعافها وإنهاكها….
كان المصاب الأكبر الذي ابتليت به أوكرانيا أن الصراع السياسي فيها تحول إلى صراع هوياتي بين أوكرانيا القريبة من روسيا وأوكرانيا الأوروبية مما جعل البلاد على شفير حرب أهلية، صار هناك خلط بين سخط الأوكرانيين من الفساد ورغبتهم في الإصلاح والذي يشترك فيها كل الأوكرانيين وبين قضية الهوية، حيث نالت القوى التي يفترض أنها إصلاحية تأييد الغرب، هذه القوى كانت قوى معادية لروسية وهذا أمر شجع عليه الغرب ودفع باتجاهه قدماً، وهو أمر استفز روسيا والأوكرانيين الروس. هذا الهيام الغربي الحالي والسابق بأوكرانيا ليس له علاقة بمصلحة أوكرانيا أبداً، إنما تشجيعاً لأوكرانيا على الابتعاد عن روسيا حتى ولو كانت النتيجة تحويل أوكرانيا إلى ساحة تشاغل روسيا لعقود حتى ولو دمرت أوكرانيا…
وهذا مايحصل….
كان من نتاج الإطاحة بيانوكوفيتش عام 2014 أن تحرك الأوكرانيون من أصل روسي في المقاطعات الشرقية والجنوبية، وفي مواجهة جيش أوكراني مهلهل وضعيف وبمساعدة من روسيا تمكنوا من الانفصال بإقليمين عن أوكرانيا هما إقليم لوجانسك وإقليم دونيتسك حيث كان يانوكوفيتش قد حصل على أغلب أصواته في انتخابات 2010، كما قامت روسيا بضم شبه جزيرة القرم ذات الغالبية الروسية بعد إجراء استفتاء فيها….
لطالما كانت شبه جزيرة القرم منطقة استراتيجية لروسيا القيصرية والاتحاد السوفيتي، روسيا القيصرية خاضت لأجل السيطرة على الجزيرة حروباً عديدة مع السلطنة العثماني ومع بريطانيا وفرنسا، هذه الأهمية جعلت موسكو تقوم بتوطين الروس فيها بكثافة بدلاً من الأوكرانيين وذلك بعد الاستيلاء على شبه الجزيرة بعد إسقاط دولة خانية القرم التتارية المدعومة من السلطنة العثمانية….
من عام 1922حتى عام 1954 كانت القرم جزءاً من جمهورية روسيا الاشتراكية ضمن الاتحاد السوفيتي، حتى قرر نيكيتا خروتشوف زعيم الاتحاد السوفيتي ذو الأصل الأوكراني والذي شغل أغلب مناصبه في جمهورية أوكرانيا الاشتراكية عام 1954 نقل تبعية شبه الجزيرة إلى أوكرانيا…. ومنذ سقوط الإتحاد السوفيتي كان يتطلع الروس إلى عودتها إلى روسيا كون غالبية سكانها العظمى من الروس، ولأهميتها الإستراتيجية خاصة مع وجود ميناء سيفاستوبول مقر اسطول البحر الأسود السوفيتي سابقاً والروسي لاحقاً….
قد تكون الأزمة الأوكرانية هي أكبر أزمة تواجهها أوروبا بعد الحرب الباردة، وهي أشد خطورة من أزمة البلقان في تسعينات القرن الماضي لأن الطرف المقابل هو روسيا…
الأزمة الاوكرانية هي جرح تم تصنيعه في الخاصرة الروسية لاستنزافها ، وإن لم تحسمه روسيا فسيسممها، والذاكرة ما زلات تحفظ ما حصل عام 2008 عندما اعتدت جورجيا على مقاطعة اسيتيا الدنيا ذات الغالبية الروسية والواقعة ضمن الأراضي الجورجية ، فقد قطع فلاديمير بوتن مشاركته في افتتاح اولمبياد بكين، وكان آنذاك رئيساً للوزراء، وأمر الجيش الروسي باجتياح جورجيا، وهذا ماحصل خلال بضعة أيام ملحقاً بجورجيا هزيمة ساحقة معلناً عودة روسيا قوةً عظمى….
وإن غداً لناظره قريب….
(موقع سيرياهوم نيوز)