| هيام القصيفي
يأخذ النقاش الفرنسي حول الوضع اللبناني أبعاداً جديدة أشبه بمراجعة للسياسة التي اتبعت أخيراً عبر فريق أو أفرقاء العمل والديبلوماسية الموزعة بين بيروت وباريس.
ميزة النقاش الفرنسي أنه يشمل نخباً وديبلوماسيين وسياسيين، ويتوسع إلى مقاربة السياسة الخارجية، لبنانياً، من زوايا مختلفة (مع استطلاع شخصيات لبنانية خارج المحاور وبعيدة من المصالح السياسية)، ويفرض نفسه على آليات اتخاذ القرار الأخير. ويتمحور النقاش الحقيقي الفرنسي الداخلي حول الدور الذي يفترض بباريس أن تلعبه: هل هو دور الوسيط أم دور الداعم للبنان ولما كانت ولا تزال تعتبره الطبقة السياسية والثقافية لديها بأنه أقرب إلى وجدانها وقلبها وعقلها، كما للقوى السياسية، بغض النظر عن أي انتماء طائفي، التي يفترض أن تنحاز إليها فرنسا تقليدياً بما تمثله تاريخاً وحاضراً.
مرّت السياسة الفرنسية تجاه لبنان قبل سنوات الحرب وما بعدها بمراحل متفاوتة في التعبير عن نفسها وعلاقاتها مع القوى السياسية. ولا شك في أن مواقف الرؤساء الفرنسيين التاريخيين تجاه لبنان لا تشبه أداء الإدارة الحالية، وقبلها سياسة الرئيس نيكولا ساركوزي، تجاه لبنان والمنطقة. ثمة محطات في العلاقة المشتركة وفي تعامل الرؤساء الفرنسيين مع لبنان والقوى فيه لا يمكن تجاهلها، كما فعل الرئيس الفرنسي فرنسوا ميتران الذي «حمى» العماد ميشال عون في التسعينيات، أو على غرار ما قام به الرئيس جاك شيراك من تهيئة ظروف القرار 1559 بما يتعدى علاقته الشخصية مع الرئيس رفيق الحريري، وبما جرى لاحقاً بعد مرحلة عام 2005.
منذ زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، بعد انفجار الرابع من آب، يسود التخبط سياسة فرنسا الخارجية في لبنان. فبين أداء رأس الديبلوماسية الفرنسية العاملة في بيروت وطاقمها، وبين تعدد وجهات النظر لدى فرق العمل في الرئاسة الفرنسية ووزارة الخارجية، ظهر الموقف الفرنسي ضائعاً في تحديد هويته. فلا مبادرة ماكرون نجحت ولا مساعي تشكيل الحكومة كما كانت تريدها، رغم تدخل ماكرون شخصياً مع القوى السياسية، ولا ما تفعله حالياً في الانتخابات الرئاسية سيكون قابلاً للترجمة العملية في ضوء هذا التخبط. فباريس بدل أن تتخذ موقفاً واضحاً في دعم خيارات يفترض أن تتلاقى معها، ودعم لبنان «بعيداً من المحاور الإقليمية»، تحوّلت إلى وسيط بين أفرقاء تحت عنوان فضفاض لكنه فعلياً لم يعبر عن هواجس حقيقية. وما حصل منذ بيان نيويورك الثلاثي دليل على أن حسم تصنيف دور باريس لا يزال متعثراً. فكيف يمكن لباريس أن تكون وسيطاً بين حزب الله تحديداً والسعودية وهي التي وقعّت بيان نيويورك بالبنود التي ترى فيها الرياض خريطة طريق لحل الأزمة في لبنان؟ وكيف يمكن أن تقنع السعودية بتبديل موقفها من حزب الله وهي تتصرف على أنها أقرب إلى الحزب؟ واستطراداً، كيف يمكن تبرير ما تقوم به، اليوم رئاسياً، وسابقاً تحت أكثر من مسمى، تحت سقف فتح أقنية الحوار فيما أفرقاء أساسيون من القوى السياسية في لبنان يصنّفون أداءها وعمل سفارتها في بيروت على أنها أقرب إلى سياسة الحزب وليس مجرد تسهيل سبل التواصل؟ وهذا ما يظهر جلياً في رفض جزء كبير من هذه القوى السياسية، من مستقلين أو مما كانت تعرف بقوى 14 آذار، لدورها وعدم الترحيب بسياستها في لبنان والمنطقة.
يسود التخبط سياسة فرنسا الخارجية في لبنان منذ زيارة ماكرون بعد انفجار المرفأ
وهنا جزء أساسي كذلك. وهذا لا يعني أو يفترض إقفال باب الحوار مع أي طرف لبناني، لكن من دون الغرق معه في متاهة من الصعب الخروج منها، خصوصاً أن حزب الله يتصرف مع باريس على أنها «خشبة خلاصه» الدولية، وأنها يمكن أن تأتي إليه بواشنطن. وهذا ما ظهر في تشكيل الحكومة واختيار وزرائه وتوسيع آفاق الحوار معها على أنها باتت في صفه، كما يظهر في تعامله معها بالملف الرئاسي.
لذا تشعب النقاش الفرنسي بدقة في قراءة ما وصلت إليه حتى الآن سياسة باريس في لبنان، إلى الحد الذي يتحدث عن أن هذا الأداء، إضافة إلى أنه لم يصل إلى أي نتيجة، ساهم في «خربطة» أي مساع إقليمية أو دولية لإنتاج حل لا يفهم منه أنه انحياز إلى حزب الله ولا التطابق معه رئاسياً أو سياسياً في وجه عام. وبعد تناوله موقف باريس من الدور السعودي والإيراني، بعد الاقتناع الفرنسي أن لا تغيير في موقف الرياض، جاء موقف المرشد الأعلى للجمهورية الإيرانية علي خامنئي حول لبنان ليفعّل النقاش أكثر. إذ أعطى حجة أقوى للمدافعين الفرنسيين عن فكرة دعم باريس للبنان والقوى السياسية التي عادة ما كانت تقف إلى جانبها، بأن إيران تستخدم لبنان ورقة ابتزاز لواشنطن، لكن باريس هي التي تتلقى ارتداد هذا الموقف. وهي التي سعت إلى وضع مظلة تفاهمات مع إيران لبنانياً وإقليمياً، قبل ظهور بعض التباينات أخيراً على خلفية دعم باريس التحركات الاحتجاجية في إيران. وهذا يعني احتمال دخول لبنان مجدداً ساحة تجاذب قد لا تكون هادئة. ما يضع الفرنسيين في موقف دقيق وحرج إزاء أي تحول يمكن أن تلجأ إليه طهران في لبنان. من هنا بدأ النقاش يأخذ أبعاداً داخلية أكثر دقة حيال الخطوات التي يمكن أن تلجأ إليها باريس لإعادة تظهير موقفها إزاء لبنان بحيث تستعيد مسارها بطريقة أكثر وضوحاً وأقل تخبطاً.