| وسام اسماعيل
منذ الحرب العالمية الثانية، تحوّلت السياسة الخارجية الأميركية من الانعزالية التي فرضها الكونغرس الأميركي على الرئيس ويلسون بعد مؤتمر فرساي عام 1919 إلى تدخلية تستهدف الحفاظ على المصالح القومية الأميركية وفق مفهوم الهيمنة العالمية التي سعت إلى احتواء الاتحاد السوفياتي السابق، وعدم تمكينه من التوسع في البلدان النامية، وخصوصاً تلك التي تختزن مصادر طاقة استراتيجية.
ووفق اتفاق كوينسي الذي تم التوصل إليه في 14 شباط/فبراير 1945 بين الرئيس الأميركي روزفلت والملك السعودي عبد العزيز بن سعود، والَّذي ينص في وثيقته المعلنة على ترتيب الأوضاع الداخلية للبلدان العربية في ظلّ أزمة الهجرة اليهودية التي زادت حدتها في تلك الفترة، تم التوافق على أن تضمن الولايات المتحدة الأميركية استقرار المملكة العربية السعودية، من خلال ضمان المحافظة على حكم آل سعود، في مقابل ضمان المملكة العربية السعودية الجزء الأكبر من إمدادات الطاقة للولايات المتحدة الأميركية.
وبناءً عليه، لم تتوانَ الولايات المتحدة الأميركية عن تقديم كلّ أشكال الدعم للمملكة السعودية، إذ قدمت لها الدعم العسكري اللامحدود في حربها ضد جمال عبد الناصر في اليمن، وتدخّلت عسكرياً لضمان أمنها وأمن ممالك النفط الخليجية حين اجتاح الرئيس العراقي السابق صدام حسين دولة الكويت.
وخلال أكثر من 70 عاماً، لم تكتفِ الولايات المتحدة بالدعم الأمني والعسكري، إنما تعدّته، وحافظت على التزاماتها تجاه المملكة في المحافل الدولية، وعملت على دعم الوجود الطموح للمملكة في المسرح العالمي، ومنعت أي محاولة لإدانتها، وخصوصاً في مجال حقوق الإنسان والحريات العامة والديمقراطية.
وعلى الرغم من الاهتمام الأميركي المميز بالمملكة العربية السعودية، نتيجة احتياطاتها النفطية وقدراتها الإنتاجية المؤثرة في السوق العالمي، إضافةً إلى دورها في التأثير في الممالك الخليجية والدول العربية، معطوفة على موقعها الإسلامي الرمزي، لمصادفة وجود الحرمين الشريفين في أراضيها، فإنَّ الإدارات الأميركية لم تجد لديها الإمكانات والمقدرات التي تكفيها لتحقيق أهدافها الاستراتيجية، إنما اعتبرت أنّ الكيان الإسرائيلي، من خلال موقعه وقدراته وفعاليته، يشكّل الرافعة الأساسية الموازية لتحقيق مشاريعها الأميركية، وضمان عدم ظهور أي إمكانية لوحدة عربية أو تكامل وظيفي عربي على الأقل.
وإذا كانت الولايات المتحدة الأميركية قد تعهَّدت بموجب المعلن من اتفاق كوينسي، في محاولة لملاقاة الملك عبد العزيز الذي صرح بأنَّ العرب سيختارون الموت بدل تنازلهم عن أراضيهم لليهود، أنها لن تفعل شيئاً لمساعدة اليهود ضد العرب، ولن تقوم بأيّ خطوة معادية للعرب، فإنَّ واقع العلاقة العضوية بين الولايات المتحدة الأميركية والكيان الإسرائيلي أكّدت نقض هذا التعهد، بل إنَّ التمهيد الأميركي لبناء علاقات طبيعية بين بعض الدول العربية والكيان الإسرائيلي، بمباركة غربية، لم ينتظر جفاف دماء الفلسطينيين في نكبة عام 1948.
وعلى الرغم من أن المملكة العربية السعودية أعلنت دائماً تمسكها بحقوق الشعب الفلسطيني وحقه بقيام دولة مستقلة عاصمتها القدس الشريف، فإنَّ المسار العملي الذي سلكته المملكة منذ نشأتها لا يدل على جهود سعودية تُبذل في هذا الإطار، فالتوسع الذي قاده الملك الراحل عبد العزيز في شبه الجزيرة العربية، لم يتمدد تجاه الأردن وفلسطين، بطلب من القائد العسكري البريطاني غلوب باشا.
كما أنّ الموقف السعودي جاء متوافقاً مع الرؤية الأميركية والإسرائيلية لناحية رفض الثورة التي قادها الرئيس جمال عبد الناصر في مصر عام 1952، أو ثورة الضباط على النظام الملكي في اليمن، إضافة إلى توافق الرؤى بينهم على ما تمثله الجمهورية الإسلامية، من وجهة نظرهم، من خطر مشترك عليهم.
وخلال أكثر من 7 عقود من التجاذبات المعقدة في الشرق الأوسط، اكتفت المملكة العربية السعودية بالتضامن الصوري مع القضايا العربية، إذ إنَّ تمسكها بمبادرة بيروت العربية للسلام 2001 أو فكرتها لحل القضية الفلسطينية، لم تتخطيا إطار المصالح المشتركة التي تجمعها مع الولايات المتحدة والكيان الإسرائيلي.
وحين اتخذت إدارة أوباما قرارها بالانكفاء التدريجي من الميدان، والاكتفاء بتقديم الدعم اللوجستي للحلفاء الإقليميين من أجل ضمان المصالح الاستراتيجية المشتركة، وحاولت التوصل إلى اتفاق يضمن سلمية البرنامج النووي الإيراني، لم تتوانَ المملكة السعودية عن التعبير عن رفضها هذا القرار، ومحاولة فرض رؤيتها، إذ يمكن تقديم الحرب المستمرة على اليمن وتظهير الدور الإيراني في المنطقة كمسبب لعدم الاستقرار، إضافة إلى استعداد المملكة للانخراط في مشاريع كانت محكومة في السابق لشروط قاسية، كالتطبيع مثلاً، في إطار المحفّز لبقاء الولايات المتحدة النشط في المنطقة، حيث يمكن أن يؤدي انكفاؤها إلى فقدان المملكة السعودية مظلتها الأمنية والدولية.
وإذا كانت إدارة أوباما قد ساهمت في تحفيز المملكة العربية السعودية، ودفعها إلى الانفتاح على الكيان الإسرائيلي، كوسيلة يمكن من خلالها تخطي عقبات الانكفاء الأميركي من المنطقة، فإنَّ دونالد ترامب ساهم في إظهار الصورة الحقيقية لطبيعة الموقع الذي يفترض بالمملكة أن تسعى إليه.
وفي هذا الإطار، يُفترض الإشارة إلى أنَّ الفارق بين أوباما وترامب لم يلامس الغايات والأهداف الاستراتيجية للولايات المتحدة في المنطقة، إنما ارتبط بالوسائل المعتمدة. وبناءً عليه، حرصت المملكة العربية السعودية، عبر ولي العهد محمد بن سلمان، على أن تحجز لنفسها مساحة يمكن من خلالها التحرك وفق عناوين تُظهر من حيث الشكل فقط استقلالية سعودية في تقدير المصالح، غير أن تحليل تلك العناوين يدلّ على تطابقها في الواقع مع السياسات الأميركية، مع الإشارة إلى انسجامها مع عقيدة ترامب المتحررة من الضوابط الشكلية التي تحرص الإدارات الأميركية عادةً على الحفاظ عليها، كادعاء الحرص على حقوق الإنسان والالتزام بقواعد القانون الدولي.
وعلى الرغم من أنَّ المملكة العربية السعودية لم تشارك في حفل التوقيع العلني على اتفاقيات التطبيع بين الكيان الإسرائيلي و4 دول عربية، الإمارات العربية والبحرين والسودان والمغرب، فإنَّ الإشارات التي صدرت عن المملكة، معطوفة على عدم إمكانية تطبيع هذه الدول من دون رضاها، تدلّ على انخراط الأخيرة في هذا المشروع، مع اختلاف في المقدمات والظروف.
وإذا كانت المملكة حتى اليوم امتنعت عن التوقيع على اتفاقية تطبيع علني مع الكيان، فإنّ عدداً من الأحداث يؤكد انخراطها في العلاقة مع الكيان، فالزيارات السرية بين الجانبين، ذات المستويات الأمنية والاقتصادية، والسماح لطائرات العال الإسرائيلية بالمرور في أجواء المملكة، إضافة إلى التنسيق الأمني الضروري لنقل السيادة على جزيرتي تيران وصنافير من الجمهورية المصرية إلى المملكة، تندرج كلها في هذا الإطار.
وإذا عدنا إلى الرؤية الأميركية التي تعتمد، في استراتيجياتها في الشرق الأوسط، على التناغم بين ركيزتيها، أي المملكة والكيان، إضافة إلى القناعة السعودية بصعوبة الحفاظ على حكم العائلة خارج المظلة الأميركية، يصبح جلياً أنَّ المسار الذي حاول ولي العهد محمد بن سلمان أن يظهره من خلال رفضه الفولكلوري مطالب جو بايدن بضرورة زيادة إنتاج النفط السعودي من أجل تعويض النقص من النفط الروسي نتيجة العقوبات، لا يدلّ على محاولة تحرر سعودية من الهيمنة الأميركية، إنما يندرج في إطار السعي للحصول على اعتراف بايدن بشرعية إدارة محمد بن سلمان للحكم في المملكة وتكريس العرش له بعد وفاة والده.
وبما أنَّ إشكالية النقص في المعروض من النفط لا تتعدى حدود الإشكالية الآنية التي من الممكن حلها، ولو جزئياً، عبر إمدادت غير سعودية، فإنَّ تنازل جو بايدن وقبوله بزيارة المملكة يتعدى ثمنه زيادة الإنتاج النفطي السعودي، إذ يُفترض أن ثمن تعويم ولي العهد أميركياً لا يجب أن يقلّ عن مكسب استراتيجي لا تقل أهميّته عن اتفاق سعودي إسرائيلي لتطبيع علني للعلاقات بين الطرفين.
سيرياهوم نيوز3 – الميادين