الرئيسية » إقتصاد و صناعة » بدائل النظام العالمي المسيطِر: الغذاء نموذجاً

بدائل النظام العالمي المسيطِر: الغذاء نموذجاً

| فايز عراجي

من الرأسمالية إلى الليبرالية فالإقطاع التقني

في كتابه «العالم مسطَّح»، يؤكد الكاتب الأميركي، توماس فريدمان (Friedman, 2005)، أنه مع انهيار جدار برلين في التاسع من تشرين الثاني 1989، حصلت تغييرات جذريّة، وخاصّة في ما يتعلّق بالنظام الاقتصادي العالمي، وأصبح العالم أكثر تسطيحاً. يعترف الصحافي الأميركي – الصهيوني – الليبرالي، في كتابه هذا، أن انهيار المنظومة الاشتراكية، ساعد في سيطرة غربية – وخصوصاً أميركية – كاملة على النظام العالمي. وقد حدّد فريدمان ثلاث مراحل من العولمة: بدأت بعولمة الدول والحكومات، ثم عولمة الشركات في المرحلة الثانية، وعولمة الفرد عبر الحاسوب الشخصي والإنترنت. وفي كتاب سابق لفريدمان أيضاً، «اللكزس وشجرة الزيتون» (1999)، يرى أن ظاهرة العولمة لن تكون موضة، «بل مفهوم جديد يستبدل الحرب الباردة». ويسوّق للمرحلة المقبلة باعتبارها صراعاً بين العولمة، بما تضمّ من رأسمال وتكنولوجيا وداتا المعلومات، ويعطي رمزاً لها سيارة «اللكزس» التي كانت أكثر السيارات تطوّراً في حينه، وبين شجرة الزيتون التي ترمز، وأيضاً بحسب قول فريدمان، إلى القوى القديمة (وهي ضمناً المتخلّفة بالنسبة إلى فريدمان) للثقافة والجغرافيا والتقاليد والمجتمعات.

في المقابل، يشرح البروفسور يانيس فاروفاكيس (Varoufakis, 2021)، وهو أستاذ اقتصاد ووزير مالية سابق ونائب يوناني حالي، تحوُّل النظام الاقتصادي العالمي الحالي من نظام رأسمالي – بعدما كان نظاماً إقطاعيّاً حتى القرون الوسطى -، إلى نظام إقطاعي – تقني (Techno-Feudalism). وفي مقابلة معه، يفصّل فاروفاكيس (Varoufakis, 2022) كيف استُبدلت الأسواق الحقيقية، وتحوّلت إلى منصّات أو أسواق افتراضية. «وبعدما كان النظام الرأسمالي القديم يَدفع ثمن قيمة الإنتاج، حتى ولو كان الثمن غير عادل، بات النظام الحالي (الإقطاع التقني) يستفيد من كل الطبقات الاجتماعية، من دون دفْع أيّ بدل»، بما يذكّر بنظام الاستعباد. فمثلاً «عند كتابة أيّ مراجعة (Review) على أمازون أو فايسبوك، أو عند تحديد موقعك وماذا تفعل على غوغل (Google Maps)، فأنت تزيد رأسمالاً إلى الرأسماليين مباشرة، ومن دون أيّ بدل».
مهما كان النظام الذي يعيش العالم في ظلّه راهناً، فمن المؤكد أن النموذج المسيطر على معظم مفاصل حياتنا، بات يشكّل تهديداً كبيراً للبشرية. فمن الناحية الفكرية، تشير «الرابطة الفرنسية للاقتصاد السياسي» (AFES) إلى أن عدد أساتذة الاقتصاد غير التقليديين (Heterodox) – ينتمون إلى مدارس اقتصادية تنتقد الرأسمالية أو يؤمنون بالرأسمالية المنضبطة – الذين نجحوا في الدخول إلى الجامعات الفرنسية، كان يشكّل 18% من حجم التوظيف بين عامَي 2000 و2004. وقد انخفضت هذه النسبة بشكل ملحوظ، حتى وصلت إلى 5% فقط (6 أساتذة من أصل 120) بين عامَي 2005 و2011، حيث بات يسيطر على اللجان الفاحصة أساتذة من خلفيات اقتصادية رأسمالية صرف (Raim, 2016).

من الناحية الإعلامية، يشير «Swiss Propaganda Research, 2019»، في دراسة بعنوان «المضاعف الدعائي»، إلى أن «معظم التغطية الإخبارية الدولية في وسائل الإعلام الغربية، توفّرها ثلاث وكالات أنباء عالمية فقط مقرّها في نيويورك (AP)، ولندن (Reuters)، وباريس (AFP)». كما تفصّل الدراسة الدور الرئيس الذي تقوم به هذه الوكالات، حيث إن «وسائل الإعلام الغربية غالباً ما تُقدِّم تقارير حول الموضوعات نفسها، حتى باستخدام الصياغة ذاتها. بالإضافة إلى ذلك، تستخدم الحكومات والأجهزة العسكرية والاستخبارية وكالات الأنباء العالمية هذه كمضاعفات لنشر رسائلها في جميع أنحاء العالم». وتعطي الدراسة مثلاً أن «تغطية تسع صحف أوروبية رائدة للحرب في سوريا، 78% من جميع مقالاتها كانت مبنيّة كليّاً أو جزئيّاً على تقارير الوكالات وصفر في المئة على الأبحاث الاستقصائية. علاوةً على ذلك، فإن 82% من جميع المقالات والمقابلات أيّدت تدخُّل الولايات المتحدة الأميركية وحلف شمال الأطلسي».
من الناحية التربوية، يورِد البروفسور جيفري ساكس (Sachs, 2015)، مدير سابق لـ«معهد الأرض» في جامعة كولومبيا وأستاذ الاقتصاد فيها وأيضاً مستشار سابق للأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون، في كتابه «عصر التنمية المستدامة»، أنه في عام 2013، 90% من التلامذة في الولايات المتحدة يكملون دراستهم حتى المرحلة الثانوية، بينما لا يتجاوز عدد المنتسبين إلى الجامعات نسبة الـ 30%، أي أن هناك تسرُّباً جامعياً بأكثر من 60%. والسبب في ذلك، بحسب ساكس، هو ارتفاع كلفة التعليم الجامعي الذي يقتصر على أبناء العائلات الميسورة فقط، أو مَن حالفه الحظّ من العائلات الفقيرة واستحصل على قرض تعليم جامعي. ويقدّر ساكس أن أبناء الأُسر الفقيرة الذين يتابعون دراستهم الجامعية مدينون بأكثر من 1000 مليار دولار أميركي للبنوك الأميركية (2013)، بينما كان المبلغ المدين حوالي 250 مليار دولار أميركي فقط في عام 2003. «هذا التمييز لم يكن فقط بين الأُسر الميسورة وتلك الفقيرة، بل كان ظاهراً أيضاً بين السلالات والأعراق. ففي عام 2012، وصلت نسبة البيض غير اللاتين (White non-Hispanic) الذين يحملون شهادة جامعية (في أميركا) إلى 35% من عددهم، بينما انخفضت النسبة إلى 21% بين الأميركيين الأفارقة (Afro-American)، وإلى 14.5% فقط بين الأميركيين اللاتين (Hispanics)». ويخلص ساكس، في كتابه، إلى«الارتباط الوثيق بين التعليم العالي والتقدُّم التكنولوجي والدور الأساسي الذي يقوم به هذا الأخير في النمو الاقتصادي».

من الناحية الصحية، يستند ساكس، في كتابه المُشار إليه، إلى أرقام نشرها «البنك الدولي» في تقريره «مؤشرات التنمية العالمية» (2014)، ليثبت ارتباط مأمول الحياة عند الولادة بالناتج الكلي المحلي للفرد (GDP per capita): كلما ارتفعت حصة الفرد من الناتج الكلّي المحلّي، ارتفع معها معدّل العمر المتوقّع. وفي تقريره «أبحاث السوق»، يُقدِّر موقع «ثروة» (Fortune, 2022) حجم السوق العالمية للأدوية بـ 1585 مليار دولار أميركي عام 2022، بعدما كان يبلغ حوالي 1494 ملياراً عام 2021، ومن المتوقّع أن يصل حجم هذه السوق إلى 2400 مليار دولار في عام 2029. توثّق الصحافية كاثارينا بوشهولز (Buchholz, 2021)، وهي متخصّصة في البيانات، تَضخّم أرباح بعض شركات الأدوية العالمية خلال جائحة «كورونا». فقد زاد صافي الدخل لشركة «جونسن آند جونسن» بنسبة 24%، وشركة «موديرنا» 7.5%، وشركة «بيونتيك» 8.5%، بينما زاد دخل شركة «فايزر» 124%. وفي مقال آخر نشره موقع «Relief Web» لمنظّمة «أوكسفام» (Oxfam, 2021)، تؤكد الأخيرة أن كلّاً من شركة «فايزر»، «بيونتيك»، و«موديرنا» تحقّق مجتمعةً أرباحاً صافية تُقدَّر بألف دولار أميركي في الثانية الواحدة على أثر جائحة «كورونا». ويتساءل البروفسور ساكس عن أسباب ارتفاع كلفة النظام الصحي في الولايات المتحدة الأميركية (Sachs, 2015). وهو يؤكد أن السبب لا يعود بتاتاً الى أن مخرجات النظام الصحي الأميركي أفضل، أو أن خدماته متعدّدة بالنسبة إلى باقي أنظمة الصحة في الدول الأخرى، «هناك بُعد وحيد لهذه القضيّة: الاقتصاد السياسي». فالقطاع الصحي الأميركي قوي سياسيّاً، وهو قادر على مقاومة أيّ تنظيم أو استبدال من قِبَل القطاع العام. «قطاع صناعة الرعاية الصحية هو واحد من أقوى أربع جماعات الضغط (Lobbies) في الولايات المتحدة الأميركية»، وفق ساكس. أمّا النفقات العالمية على القطاع الصحي فهي في ازدياد مطّرد. يقدّر ماثيو شنيدر (Schneider et al., 2021) أن النفقات العالمية على القطاع الصحي تضاعفت خلال العقدَين المنصرمَين من 4100 مليار دولار أميركي عام 2000، إلى حوالي 8200 مليار دولار أميركي في عام 2017.

مهما كان النظام الذي يعيش العالم في ظلّه راهناً، فمن المؤكد أن النموذج المسيطر على معظم مفاصل حياتنا بات يشكّل تهديداً كبيراً للبشرية

هذا يُظهر أن القطاع الصحي في العالم أصبح قطاعاً صناعياً أكثر منه قطاعاً للرعاية الصحية، تسيطر عليه شركات صناعة الأدوية والمعدّات الطبية، شركات التأمين الصحي وشركات الرعاية الصحية. يوضح جدول «الناتج الكلي المحلي، النفقات الوطنية الصحية، بالنسبة إلى الفرد، ونسبة توزيعها، والمتوسّط السنوي لنسبة التغيير في الولايات المتحدة الأميركية للسنوات من 1960 حتى 2019» الصادر عن «مركز مكافحة الأمراض والوقاية منها» (CDC, 2021)، أنه مع نهاية ثمانينيات القرن الماضي، زاد الإنفاق على القطاع الصحي بالنسبة إلى الفرد بشكل جنوني وغير مبرَّر حتى وصل إلى 2833 دولاراً أميركياً سنوياً، بعدما كان 146 دولاراً في عام 1960. وقد استمرّ هذا الإنفاق بالارتفاع حتى وصل إلى 11582 دولاراً أميركياً عام 2019، منها حوالي 27% ثمن أدوية ومعدّات طبيّة (ما مجموعه 1019 مليار دولار أميركي سنوياً). هذا يؤشر إلى انتقال القطاع الصحي إلى صناعة صحيّة مع نهاية الثمانينيات. وهل هي مصادفة أن يَحدث ذلك مع بداية المرحلة التي أصبح فيها العالم يعيش تحت أحادية قطبية فَرضت النظام الذي ما زلنا نعيش في ظلّه؟ يبقى أن نشير إلى أنه، خلال الحقبة نفسها (نهاية الثمانينيات)، بدأت الولايات المتحدة بفرض تشديد القوانين في ما يتعلّق بحقوق الملكية الفكرية وتسجيل براءات الاختراع على دول العالم، وهو نوع من أنواع الاحتكار والحصرية. وقد أورد شيرر (Scherer, 1993)، في مقال له بعنوان «التسعير والأرباح والتقدُّم التكنولوجي في الصناعات الدوائية»، أن الولايات المتحدة وجّهت تحذيرات إلى عدد من الدول بوضعها تحت برنامج العقوبات الذي أقرّه مجلس الشيوخ في عام 1988، في حال عدم تشديد قوانينها بما يتعلّق بحقوق الملكية الفكرية. وقد استجابت بعض الدول، على سبيل المثال: كوريا الجنوبية والمكسيك وإندونيسيا وجمهورية الصين الشعبية وتايوان والهند وتايلاند، بينما رفضت أخرى، مثل: البرازيل التي طُبقت عليها العقوبات عام 1989. يبقى أن نذكّر بأن القطاع الصحّي في النظام الذي نعيش فيه حالياً يموَّل بشكل كبير من الأموال الخاصة. ففي الولايات المتحدة مثلاً، يبلغ متوسّط الإنفاق على القطاع الصحي من الأموال الخاصة حوالي 60%، وقد وصل إلى أدنى مستوياته أواخر الثمانينيات، فبلغ 57% بحسب إحصاءات «مركز مكافحة الأمراض والوقاية منها» (CDC, 2021).

بقي أن نورد أخيراً تأثيرات النظام العالمي الحالي على الناحية الغذائية؛ وبذلك نكون قد تطرّقنا إلى النواحي الأساسية لحياتنا اليومية من تعليم وطبابة وغذاء.

السيطرة على النظام الغذائي العالمي
لقد مرّت السيطرة على النظام الغذائي العالمي بعدّة مراحل. فحتى أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، أخذ تدفُّق الغذاء غالباً اتجاه جنوب – شمال. بحسب الدكتور إيريك هولت – غيمينيز (Holt -Gimenez, 2010)، كانت دول الجنوب تُطعم دول الشمال وتُصدِّر لها الحبوب خاصة، بأسعار تنافسية. دفع هذا المسار إلى الإحجام عن الزراعة في بريطانيا. ثار الإقطاع الإنكليزي، ودفع في اتجاه إقرار «قانون الذرة» عام 1815، وهو قانون يفرض الضرائب على استيراد الحبوب لحماية الزراعة المحلية. استمرّ العمل بهذا القانون حتى عام 1846، حين تمّ إلغاؤه بسبب الارتفاع الباهظ في سعر رغيف الخبز الذي تسبّب به (Wikipedia, 2022). عاد بعد ذلك التدفّق مجدّداً من الجنوب نحو الشمال. «امتدّ أوّل نظام غذائي حتى فترة الكساد الكبير (1930)، وقد ربط الواردات الغذائية من الجنوب والمستعمرات الأميركية في اتجاه التوسُّع الصناعي الأوروبي» (Holt-Gimenez, 2010). وبحسب ماك مايكل (McMichael, 2009)، «دمج النظام الغذائي الأوّل بين الواردات الاستوائية الكولونيالية نحو أوروبا، وبين الواردات من الحبوب الأساسية والحيوانات من المستوطنين في المستعمرات». كما دفع النظام الغذائي الأوّل في اتجاه فرْض الزراعات الأحادية في المستعمرات المحتلّة، فاستعانت بريطانيا مثلاً بالمستوطنين في المستعمرات المحتلّة لتأمين حاجاتها الأساسية من الغذاء.

أورد إيكارت ورتز (Woertz, 2014) في مقاله «تاريخ النُظُم الغذائية والشرق الأوسط»، أنه «بعد الكساد الكبير، ظهر النظام الغذائي الثاني بعد الحرب العالمية الثانية. كانت الزراعة المدعومة في البلدان الصناعية والتخلُّص من الفائض في اتجاه العالم النامي في صميمه». عكس «النظام الغذائي الثاني تدفُّق الطعام من الشمال إلى الجنوب لتغذية صناعة الحرب الباردة في العالم الثالث»، و«سيطر إصلاحيو الرأسمالية (Reformists) على نظام الغذاء العالمي من مرحلة الكساد الكبير في الثلاثينيات، إلى حين بشّر رونالد ريغان ومارغريت تاتشر بالعولمة النيوليبرالية في الثمانينيات، والتي تميّزت بتحرير الأسواق، والخصخصة، ونمو واحتكار الشركات أحادية القوّة لنظم الغذاء حول العالم» (Holt-Gimenez, 2010). لقد قام النظام الغذائي الثاني على أساس برامج دعْم الزراعة، وتشجيع التصنيع الغذائي، وقوانين حماية الإنتاج خلف الرسوم بطريقة لا يمكن اختراقها إلّا من خلال البرامج العامة للمساعدات أو المنح الغذائية. نجح هذا النظام في تداول المنتجات الزراعية تحت مسمّى منح، لا سلع، تُنقل عبر آلية «مدفوعات مقابلة» من الدول المتلقّية في البنوك المحلية تُستعمل وفقاً لتقديرات المستشارين الأميركيين المحليين (Friedman, 2005). نجحت هارييت فريدمان في تحديد التناقضات في «الرأسمالية الخضراء» التي حابت، بطريقة انتقائية، طلبات التيارات البيئية والتجارة العادلة وصحّة المستهلك ورعاية الحيوان. أطلقت فريدمان على النظام الغذائي ما بعد الحرب العالمية الثانية، تسمية نمط الغذاء الصناعي – التجاري للتأكيد على أسس التصنيع الغذائي وحماية الدولة. تضمّنت هذه الحماية دعْم الصادرات الزراعية كميّزة أدّت إلى تحوُّل الولايات المتحدة إلى «المصدّر المهيمن»، والمستعمرات ودول العالم الثالث إلى مستوردة للغذاء بعدما كانت مكتفية غذائيّاً، وأوروبا الى منطقة مكتفية ذاتيّاً ومنطقة تصدير رئيسة (Friedman, 2005).

مرّت السيطرة على النظام الغذائي العالمي بعدّة مراحل، فحتى أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، أخذ تدفُّق الغذاء غالباً اتجاه جنوب – شمال

مع بداية الستينيات من القرن الماضي، دخل النظام الغذائي العالمي مرحلة «خصخصة الزراعة التي أعطت الأولوية للأرباح الزراعية للشركات الكبرى على الناس والكوكب» (Walton, 2022). أبرز مثال على ذلك، هو ما يسمّى «الثورة الخضراء»، عندما تعاونت الهند مع «الوكالة الأميركية للتنمية الدولية» ومؤسسة «فورد»، فاعتمدت زراعتها على الكيميائيات الزراعية والتربية المكثّفة للنباتات. «هذا التحوّل نحو الزراعة الكبيرة والزراعة الأحادية الأكثر ربحية، جعل صغار المزارعين أكثر اعتماداً على الأسمدة الكيميائية الباهظة الثمن، ما أجبرهم على الدخول في مستويات متزايدة من الديون» (Walton, 2022). وقد دفع «برنامج التكيّف الهيكلي» (Structural Adjustment Program – SAP) الذي فرضه «البنك الدولي» على دول الجنوب المثقَلة بالديون، في اتجاه تسليع الغذاء والمحاصيل الزراعية النقدية للتصدير (Cash Crops)، وبالتالي إهمال المحاصيل الأصلية التي يعتمد عليها السكّان المحليّون في غذائهم، فأصبحوا أكثر عرضة لندرة الغذاء. بحسب أدال والتون (2022)، تحوّلت كينيا – مثلاً – إلى دولة مصدِّرة للأغذية (شاي، قهوة، خضروات وأزهار الزينة)، بينما يعاني 29% من أطفالها في المناطق الريفية، و20% منهم في المدن، من التقزّم (Stunting) بسبب سوء التغذية.

في ما يتعلّق بفائض الإنتاج، تشير جينيفر إيديس (Eddis, 2014) إلى أن المساعدات الغذائية كانت الطريقة المناسبة للبلدان المانحة للتخلُّص من فائض إنتاجها الزراعي، ولاحقاً تكريس التبعيّة الغذائية لها. وأعطت مثالاً للتأكيد على ذلك، بياناً للسياسي الأميركي، هوبير هامفري، عام 1957، صرّح فيه، في مجرى تأكيده على أهمية المساعدات الغذائية الأميركية واصفاً إياها بـ«الأخبار الجيّدة»، «إذا كُنتَ تبحث عن طريقة لجعل الناس يعتمدون عليك وتابعين لك، من خلال تعاونهم معك، يبدو لي أن الاعتماد على الغذاء سيكون رائعاً»، وأبرز مثال على ذلك هو ما عُرف «بأزمة التورتيا» في المكسيك. بعد ارتفاع أسعار الذرة بشكل جنوني مع بدء استعماله كوقود زراعي، اضطرّت المكسيك إلى أن تعتمد على برنامج التكيُّف الهيكلي (SAP) لتأمين احتياجاتها من الذرة من الولايات المتحدة الأميركية على شكل مساعدات غذائية. «خلال عقود قليلة، باتت المكسيك تعتمد، إلى درجة كبيرة، على الولايات المتحدة لتأمين احتياجاتها من الذرة. وقد أدّى ذلك إلى تآكل الزراعة الفلاحية وإلى أن تصبح المكسيك مستورِداً صافياً للغذاء، فأصبحت دولة في حالة انعدام تامّ للأمن الغذائي، وتتالي الأزمات الاقتصادية، فانعدام الاستقرار السياسي، وعدم قدرتها على ضبط الأنشطة الإجرامية».

سياتل 1999
المرحلة الحالية هي مرحلة ما بعد تأسيس «منظمة التجارة العالمية» (WTO). تأسّست هذه المنظمة رسميّاً في الأوّل من كانون الثاني 1995 بعد جولة محادثات الأوروغواي التي امتدت من 1986 حتى 1994 (توقّفت في 1990 بعد فشل المفاوضات في الوصول إلى اتفاق لتقليل دعم المزارع في الدول الكبرى)، وخلال جولة مراكش. وقد أُنشئت على أنقاض اتفاق «الغات» GATT (الاتفاقية العامة للتعريفات الجمركية والتجارة) الذي وُقُع عليه سنة 1948 (Wikipedia, 2022). يشير الكاتب جون مادلي (Madeley, 2002)، في كتابه «تجارة الجوع»، إلى أنه بعد عام 1990، تمكّنت الولايات المتحدة، بالاتفاق مع الاتحاد الأوروبي، من فرض القوانين المناسبة لكلتا الجهتَين من دون الأخذ في الحسبان مصالح الدول النامية. وللمفارقة، فإن عام 1990 هو العام الذي تلا انهيار جدار برلين وسيطرة الأحادية القطبية على العالم. «في عام 1996، ارتفع ثمن سعر الحبوب 40% مقارنةً بالسنة الفائتة. وعلى رغم أن جولة المفاوضات في مراكش أقرّت منْح الدعم الدولي للدول النامية والدول المستورِدة بالكامل لموادها الغذائية، إلّا أن لجنة الزراعة في منظمة التجارة العالمية، وبناءً على مشورة صندوق النقد الدولي، رفضت تطبيق قرار الدعم، متذرّعةً بأنه لم يوضع موضع التنفيذ، وبأن ارتفاع سعر الحبوب غير مرتبط باتفاق جولة الأوروغواي. في عام 1998 وعلى رغم هبوط سعر الحبوب عالميّاً، إلّا أن الدول النامية والدول المستورِدة بالكامل لموادها الغذائية، استمرّت في دفع فاتورة أعلى بـ 20% من المعتاد في السنوات الماضية» (Madeley, 2002). مع اقتراب الاجتماع الوزاري لـ«منظمة التجارة العالمية» في سياتل الأميركية، عام 1999، وقّعت أكثر من 1200 جمعية بيئية ونقابات عمّال ومنظّمات تنموية من 100 بلد من دول العالم الثالث، عريضة احتجّت فيها على نظام التجارة الدولي، واصفة إيّاه بأنه «نظام غير عادل، ينقصه الكثير من الشفافية ويَدخل في نزاعات مع الأنظمة المحلية والدولية التي تؤكد احترام معايير البيئة والتنمية». دفع اجتماع سياتل في اتجاه أكبر عملية اعتراض دولية شارك فيها أكثر من 50 ألف شخص من مختلف أنحاء العالم عطّلوا افتتاحية الاجتماع الدولي ونشط ممثّلو هذه الجمعيات والنقابات للدفاع عن قضيّتهم داخل الاجتماعات وشرح خطورة «تحرير التجارة التي تدفع ملايين السكّان في الدول النامية إلى ترْك أراضيهم، وإلى تعريض الأمن الغذائي للخطر» (Madeley, 2002). بدأت ملامح النظام الغذائي الثالث تتظهّر مع نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات من القرن العشرين. عمّق هذا النظام عمليّة التصنيع الغذائي التجاري وعولمها عبر ربط الشركات المحليّة بالشركات عبر القارية. «دمج النظام الجديد مناطق جديدة في سلاسل البروتين الحيواني مثل الصين والبرازيل، وعزّز سلاسل التوريد المتباينة مثل ثورة السوبرماركت للمستهلكين المتميّزين للفواكه والخضر الطازجة والأسماك، وولّد كتلة بشرية من النازحين نحو الأحياء الفقيرة بعد مغادرة صغار المزارعين أراضيهم» (McMichael, 2009).

…..يتبع: نتائج السيطرة على النظام الغذائي العالمي والبدائل العالمية والمحلية
سيرياهوم نيوز3 – الأخبار
x

‎قد يُعجبك أيضاً

وزير التجارة الخارجية الكوبي يبحث مع السفير السوري تعزيز العلاقات التجارية

بحث وزير التجارة الخارجية والاستثمار الأجنبي الكوبي أوسكار بيريز أوليفا فراغا مع سفير سورية في هافانا الدكتور غسان عبيد سبل تعزيز العلاقات التجارية بين سورية وكوبا. ...